فرويد وموسى المصري: الادعاء "الفاضح"

شادي لويس

الجمعة 2019/09/20
في مدخل البيت الكبير نسبياً، بحسب المعايير اللندنية، وجهنا الحارس إلى غرفة الطعام، فبعد دقائق ستبدأ الجولة التي تقودها أمينة المتحف. هنا قضى فرويد الشهور الـ14 الأخيرة من حياته، حتى وفاته العام 1939، وكذلك عاشت ابنته، آنا فرويد، الوحيدة من بين أولاده التي اتبعت خطاه المهنية، وأضحت لاحقاً مؤسسة التحليل النفسي للأطفال. وبعد وفاتها بأربعة أعوام، تحول البيت إلى متحف باسم والدها، بحسب وصيتها في العام 1988.

لم يكن هناك ما يلفت الانتباه حقاً في الغرفة التي وقفنا فيها مع الزوار الآخرين في انتظار الجولة، إذ يندر أن تثير بيوت المشاهير الكثير من الأفكار عن أعمالهم. طاولة خشبية لعشرة أشخاص يمكن أن تجدها في أي بيت آخر بالاتساع نفسه، وبعض الخزائن الخشبية المزينة بباقات من الزهور، بدت من طراز بافاري قديم. القطعة الوحيدة اللافتة للانتباه، كانت لوحة نخلة، تبين إنها لحفيد فرويد، الفنان الشهير، لوسيان فرويد، وقد أضيفت لاحقاً للغرفة.

كانت الجولة في إطار برنامج ينظمه المتحف تحت عنوان "فرويد ومصر"، يتضمن بالإضافة إلى معرض خاص يحمل الاسم نفسه، محاضرتين عنوانهما "علم تفسير الأحلام في مصر القديمة"، و"هيروغليفية الكوابيس"، وكذا مؤتمر بحثي، موضوعه: "فرويد: بين أوديب وأبو الهول".

اكتفت أمينة المتحف أثناء حديثها في غرفه الطعام، بالإشارة إلى الملابسات التي قادت فرويد إلى مغادرة فيينا، والقدوم إلى لندن، إذ كان لدى فرويد طموح قديم بأن يصبح "جنتلمان" إنكليزياً يوماً ما، ولذا داوم على القراءة بالإنكليزية كلما أتيحت الفرصة، وعلى الكتابة بها، خصوصاً في مراسلاته مع أخوين غير شقيقين كانا يعيشان في مانشستر. لكن بالطبع كان هناك سبب آخر وراء انتقاله إلى بريطانيا. ألقت مرشدتنا بضع نكات كالمعتاد في مثل تلك الجولات. فحين قدم تلاميذ فرويد ليخبروه بأن النازيين يحرقون كتبه في الميادين، شرد قليلاً وتنهد: "طريق طويل قطعته الإنسانية، تقدمنا كثيراً، في الماضي كانوا سيحرقوني أنا شخصياً". وبعدما نجحت وساطة الرئيس الأميركي في الحصول على تصريح لخروجه من فيينا إلى لندن كلاجئ، وفيما كان فرويد يوقع إقراراً يؤكد بأنه قد تمت معاملته بطريقة حسنة قبل المغادرة، قال للضابط الألماني: "بكل تأكيد، سأوصي بالنازيين لجميع أصدقائي، خدمة ممتازة". لاحقاً، وفي وسط حديثها عن أوضاع اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، ارتكبت مرشدتنا واحدة من زلات اللسان الفرويدية: "كان وضعنا صعباً في أوروبا"، وبدا استخدام ضمير "نحن" غير مبرر من منظور مهني على الأقل، لكنه كان كافياً لتفسير بعض الأشياء لاحقاً.

بالدخول إلى غرفة المكتب، والتي استخدمها فرويد لاستقبال مرضاه أيضاً، يظهر هوسه بمصر القديمة. ففوق الكنبة الشهيرة، التي تمدد عليه مرضاه، وأحضرها معه من فيينا، هناك لوحة لأبي الهول في لقاء أوديب به، وأمامها على الحائط المقابل، لوحة لمعبد الكرنك. وعلى مكتبه وأرفف الكتب، عشرات التماثيل الفرعونية القديمة، والجعارين، وغيرها من المنحوتات الصغيرة التي كانت تستخدم كتقدمات للآلهة في المعابد المصرية.



تخبرنا مرشدتنا بأن فرويد نشر عمله الأخير من هذا البيت، وكان الكتاب الذي عمل عليه عشر سنوات مرتبطاً بمصر أيضاً، "موسى والتوحيد"، وأشارت بعدها إلى أنه وصل إلى "ادعائه الفاضح" بأن موسى كان مصرياً وليس يهودياً في هذا الكتاب. ولم يكن استخدام كلمة "الفاضح" هنا زلة لسان. ففي برنامج المعرض، كما في لوحات إرشادية في غرفه وموقع المتحف في الإنترنت، في كل مرة ذكرت نظرية فرويد عن مصرية موسى، كانت تُوصف بالفاضحة، دوناً عن كل نظرياته الأخرى.

في الطابق العلوي من المتحف، يتضح أن فرويد كان أكثر من مجرد هاوٍ لجمع تذكارات قديمة. فبالإضافة إلى قطعة حجرية منتزعة من أحد المباني الفرعونية، ورأس لتمثال ملون بالحجم الطبيعي، وقطعتين من كفن كتبت فيهما تعويذة لإخضاع خدم الميت له في الحياة الأخرى، وخرطوش ملكي من الحجر، ومجسم خشبي صغير لمركب الشمس، وبضع تماثيل بأحجام مختلفة، كان هناك قناعان لكفَني مومياوتين عليهما رسوم للوجه تشبه الطراز المعروف بـ"وجوه الفيوم". وكانت تلك الوجوه المرسومة على قماش الأكفان، رائجة في أوروبا في زمن فرويد كديكور منزلي، حيث كان من الممكن وضعها في براويز وعرضها كلوحات في غرف الاستقبال، وكانت واحدة من النظريات الرائجة حولها هي إن تلك المومياوات تعود ليهود الإسكندرية القديمة، وقد انتزعت المئات منها من أكفان المومياوات، التي يرقد الكثير منها اليوم في مخازن المتحف المصري بلا وجوه.



ربط فرويد بين التحليل النفسي والأركيولوجيا، فكلا المبحثين مهتمان بالحفر في الطبقات السفلية بغية استخراج الماضي. وبمعرفة مشوشة بالكتابة الهيروغليفية، التي ظنها كتابة أيقونية، على غير حقيقة كونها كتابة صوتية، فإن مؤسس التحليل النفسي ظن في طرق تأمل رموزها ومحاولة تفسيرها، وسيلة مشابهة لفك رموز العقل الباطن والأحلام. ولم تخلُ أحلام فرويد من الإشارات الفرعونية. ففي واحدة يرى كائنات بأجساد بشرية ورؤوس بجع، وبالرغم من المعارف شديدة السطحية والمغلوطة التي كانت لدى فرويد عن مصر القديمة، فإن ما يحسب له هو أن تفسيراته الجنسية للرمزيات الفرعونية هو ما شجع علماء المصريات في زمنه للنظر إلى الجانب الشبقي فيها، وهو ما كان مهملاً في السابق.

يشير المعرض إلى هذا كله، لكنه يتجاهل تماماً محاولة الاشتباك مع "الادعاء الفاضح" لفرويد. فبالطبع، فرضية إن موسى كان مصرياً متأثرا بديانة أخناتون، وأن اليهود قتلوه، لا تبدو مؤسسة على أدلّة مقنعة، لكن هذا كان الحال في كل نظريات فرويد، سواء في مجال التحليل النفسي أو غيره. ما يتجاهله المعرض بشكل متعمد في الأغلب، هو القناعة العابرة للتخصصات الأكاديمية، بأن هوس فرويد بمصر الفرعونية، وتمصيره لموسى، كان جزءاً من شعوره بالعار من المهانة التي رأى والده يتعرض لها بسبب ديانته اليهودية من دون أن يجرؤ على مواجهتها. كان فرويد يريد أن يكون "جنتلمان" إنكليزياً بالتأكيد، ليتجاوز ذلك الشعور بالعجز، لكنه بشكل أكثر إلحاحاً كان يسعى إلى شيء آخر. 

من دونالد كوسبيت، الناقد الفني الأميركي والمتخصص في تاريخ الفن، إلى لوريلي كوركوران، عالمة المصريات، مرورا بالمؤرخ إي.هاتش. سبيتز، نجد قناعات متشابهة، بأن مجموعة فرويد الفرعونية كانت أداة لاكتشاف نفسه "قبل التاريخي"، لإنكار يهوديته والبحث عن هوية بديلة يختارها بنفسه. أو، كما يقول كوسبيت بشكل أوضح وأبسط: "فرويد أراد أن يكون مصرياً"، وهو الأمر الذي قرر منظمو معرض عنه، وعن مصر، أن يتجاهلوه تماماً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024