محمد خضير.. الشاعر/الفلّاح فوزي كريم بعد عام من رحيله

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2020/05/19
(*) ليست لي معرفة كافية بالأعوام التي عاشها فوزي (وهذا اسم كافٍ للتعريف بالشاعر) قبل أوّل لقاء لي به في بغداد العام 1972 (وهذا تاريخ ثبتَتْ عليه بغداد ولم تتغيّر بعدَه على تقويمها المترنّح بشخصياتها ومقاهيها ومعالمها التاريخية والفنية). كما ليس لي اتصالٌ مباشر بالأربعين يوماً التي أعقبَت انهيار فوزي في لحدِهِ اللندني (اللحد: كلمة ستقوى استعارتُها الشعرية بعدَه كما كانت قبلَه محمولةً في جيب حياته). فالغريب يبقى غريباً في أعماق كتلتهِ الفكرية والبدنية (لم يزدد وزنُ جسده رطلاً بل نقصَ كثيراً في آخر صورةٍ له) وصورته لا تتجلّى بأكثر مما تجلّت به صورةٌ لشكسبير او الزهاويّ بالرغم من تطور تقنيات التصوير.

أحبَّ فوزي أن يُرى أو يُصوَّر بذلك الشَّعر الجعد يتأطّر به وجهُه، لا قصيراً ولا طويلاً، بل فتلات تترجّل كما في إكليل شوك، تنتصب شعيراته أو تنفِر ضجرةً كأصابعه التي لا تستقرّ على سطح ثابت. فالسطح السويّ، الناعم، عدوُّ القصيدة التي تتدحرج على أرض غير سويّة. تتأوّه كسيرينادا في شرفة ناتئة على دجلة، أو تتقعقع كعجلات عربةٍ تحمل عصبةَ موسيقيين في آخرة الليل تحت قمر شاحب. (بغداد التي تتأوّه أو تتقعقع أبداً بموسيقاها الجنائزية في قصائده).

لم أقرأ الشعرَ قبل ذلك الجنون (جنون من حجر، ديوانه الثالث 1977) فبهذا اتسعت رؤيتي لشاعر أليفٍ في برّية أيديولوجية وعرة خلال ستّينيات القرن الماضي (الحَجَرُ: مفردة مبكرة في قصائد تلك الأعوام، مثَلُها كمثل: المِنْهَدة، في قصيدة لصادق الصائغ) وبهذين يصبح الحرفُ حجَراً في طريق القراءة، أو مِنهدةً مرمية تحت السرير. والحقيقة لا شيء يبقى أليفاً في ذاكرةٍ معقّدة وتالفة بسبب الانتقال من سكَنٍ الى سكن أو من قارّة الى قارة. ولا شأنَ لقارئ (يُفرِد كتُبَ الشعر على رفّ خاص في مكتبته) بما أعقبَ رحيلَ الكركدنات (جمع كركدن) زرافاتٍ ووحداناً عن غابةٍ أحاطَ بها حرّاس القلعة المدجّجون بالسلاح. ها هو ذا قارئ الوقت الكونكريتي، والحجْر الوبائي، باقٍ على تخوم الغابة، يجمع الطبعاتِ الأُوَل، ويتنصّت لصرخات المذبحة تطيح بالأشجار الحجرية (الحروب على رقعة شطرنج لم تنقطع دُسُوتُها منذ ذلك الحين بين يدي الجنرالات المتعاقبين). نعم الحجَرُ لا غيره؛ وإلا فالمناهِد المحلولة امام تيجان الشَّوك. أو اقتلاع الأشجار وقت الزلزال. ثم الوقت يتباطأ ويقف لينحني على الّلحد اللندني بعد عام. أيةُ هجرة، بل أيُّ تذكار كابوسيّ هذا! بل أيُّ توازٍ بين كلمات متحجّرة/ محجورة في قارات الأوبئة (قارة الأوبئة: اهمُّ قصيدة كتبَها فوزي بعد خروجه من العراق).

في ذكرى رحيل القاص الموصليّ محمود جنداري، ومرور الأيام المتباطئة حول لحد فوزي، صلة لن تنفرط. جنداري المتوسط بين قارّتين، سيكون واحداً ممّن أهدى إليهم فوزي أعماله الشعرية الكاملة (الصادرة عن المدى في جزءين العام 2001 إلى جانب أصدقاء آخرين من ركّاب عربة آخر الليل). يشير هذا الإهداء الى العنقود المتدلّي من كرمة معمّرة، اعتُصِرت مراراً حتى جفّ عِرقُها وتضاءلت أعنابُها؛ عنقودٍ مجازيّ يشير من جهة أخرى إلى انفراط ما لا ينفرط، كما أشار المعرّي يوماً الى لزوم ما لا يلزم. الشاعرُ بإخوانه وأحبابه، كما بقوافيه وأسبابها الملزِمة. ذلك ما لا ينكره قارئٌ مُوَلّه بالإيقاع، كتولّه فوزي بالموسيقى والغناء. ذلك التلازم التراجيدي/المنفرط سيطيح بأيّ حنينٍ إلى مكان فارقَه فوزي إلى الأبد. مَن لأخٍ شاخَ على ذكرى قافية، وصخبِ حانة، ونسمةِ ليلةٍ صيفية رطبة! لا أحد. وكذا الصور باهتة لا تشبّه وجهاً راحلاً. وهبطت الألحان من رفّها تباعاً ما أن عرضَ صاحبُه محتوياته الموسيقية للبيع! لا شيء. صدى حجَرٍ ظلّ يتموّج همساً بين ضفتين موصولتين من دجلة حتى التيمز. ثم توقف.
مَن يحرّك الحجَرَ عن القبر، مَن للقصيدة عائدة الى جوار دجلة؟!

مَن للذكرى عندما تنتهي في قصيدة؟
منذ مقالاته الأولى، المتفرقة على مجلات العاصمة (ومنها مقالات عن القصة العراقية نشرها في مجلة -المثقف العربي- نهاية ستينيات القرن الماضي، إضافة إلى ملاحظاته المختصرة في مجلة -ألف باء- حيث عمل محرراً فيها) أبدى فوزي استعداداً نقدياً طبيعياً للسجال حول قضايا الثقافة في العراق، التي خشِيَ تفسُّخَها في سنين الشبوب السياسي المتوتر بين اليسار واليمين. كانت سجيّته المشبوبة تأبى السكون، وتتوق للتجديد والمخالفة. وقد مالت هذه السجيّة بطبيعتها المتفرّدة نحو جماعة مجلة شعر 69، فوقّع معهم "بيانهم الشعري" ليضع بصمةً شخصية، لا تُحسَب كبقية البصمات الشعرية. وبعد سنوات طويلة من ذلك الشبوب النقدي، يعود فوزي لينشر مقالاً عاصفاً في مجلة "الأقلام" بعد سقوط بغداد في العام 2003، أراد له أن يكون "بصمة" شاهدٍ على تغيّر مفصلي كبير. فالشاعر المشطور بين موقعين متباعدين، أعاد الاعتبار لـ"الروح الحية" - البصمةِ المشتركة لكتبة البيان الشعري. ويومها كان وقتاً ربيعياً مشجّعاً على عودة عشرات المنفيّين الى نقطة النفي الأولى، بغداد التي عاشت لياليَ رهيبة لم تعشها منذ استباحة المغول لأسوارها.

ذلك الشاعر، المسالم الظاهري، بدأ باكتشاف قواه النقدية، النائمة في ظلال شجر الحيّ الإنجليزي الهادئ. وإزاء المراجعات الانتقادية لزعماء التحالف الدولي الذين دافعوا عن سيناريو دخول بغداد (أهمها شهادة رئيس الوزراء البريطاني بلير أمام لجنة التحقيق) وفضائح ويكيليكس، وبدء دورةٍ جديدة من العنف الأصولي في بغداد؛ أطلّت الروح الشاعرية الحيّة لتسترجع تاريخاً طوّحت به أعاصيرُ القرن الجديد (ولم تمضِ منه إلا سنوات قليلة). نشر فوزي كتباً نقدية، مغلّفة ببصمة سيريّة (تهافت الستينيين، العودة إلى كاردينيا، ثياب الامبراطور) إذ ليس لفوزي ما يخسره سوى حياةٍ مرمرتها شجونُ الصداقة وزعزعتها فرقةُ الخلّان. وكان عليه أن يشهد عليها قبل الغروب، غروبُ القصيدة أو نحول الجسد. كان أخشى ما يخشاه أن تتردى القصيدة في مهوى النثر البارد اذا ما تخلّت عنها الموسيقى؛ مثلما خشِيَ أن يتردّى القلبُ الموزون على خفقات الحبّ في صمت الطريق الحجريّة. (وقبله أنصتَ قلبُ السياب للمِعول في الوريد الناشف، ورشدي العامل لأشباح الشاربين من كأس فارغة). الطريق الواصلة بين نبض ونبض في محافل الندامى المتناقصين. وكانت لحظةً رهيبة ان يلتقي فوزي بواحدٍ منهم، وقد خلَت يداه من هدايا/فديات الحبّ التي اعتاد حملها تحت معطفه. من يدري؟ فلعلّهم حضروا لحظة الدفن دون أن يدري؛ هو الذي افتداهم بقصائد من قبيل فدية حسين مردان قبل موته. (وهناك في تاريخ الطريق الحجرية أكثر من فدية أقدمُها فدية الرصافي للزهاوي شدا بها على قبره).

هل لي ان أعيد لفوزي ما حسِبه في بداية حياتهِ الشعرية ضمانةً أكيدة لا تذبل بتعدد الأمكنة، وتغيّر الأزمنة، وغياب الوجوه الأليفة؟
التقيتُ فوزي منذ 1972، لِماماً. في واحدة من زياراته للبصرة مع شعراء مهرجان المربد، لم يطلب فوزي مقعداً متقدماً في قاعة الإلقاء، أو احتفاء خاصاً من عريف الحفل، إنما ظلّ واقفاً في رواق معرض الرسوم المقام بمناسبة المربد، بعد دخول الشعراء للقاعة. أثارت اللوحاتُ في نفسه رغبةً قديمة في تخطيط الوجوه، ومنها وجهه الذي تخفيه لحيةٌ كغابة حلفاء بين جذوع النخيل. طلبَ أن أوفّر له كراسة رسمٍ لتبديد الوقت البطيء.. ثم طلبَ باقةَ خضروات تحتوي الرشّاد البرّي والكُراث والكرفس، لتحريك أمعاءه التي أمسكها طعامُ الفندق الصلب. كنت سأقودُه الى بستان وأضعُهُ بمواجهة فلّاح من أبي الخصيب. تلك كانت فرصتي/ فرصته في استعادة رائحة الطماطم/ البندورا ذات العطر الأخضر في قصائد السياب/ سعدي/ الصكار ورهطِ الشعراء الفلّاحين، الذين لم تُتلِف الهجراتُ البعيدة حركةَ أمعائهم النشيطة. نعم، هذا ما كنت أظنُّه زمناً حين أقرأ أشعارهم: ضبطَ هؤلاء الشعراء الريفيّون أوزانَ قصائدهم على حركة الأوتار المَعِديّة الطويلة في بطونهم. ويا لهذه الأمعاء التي تلفّ كرةَ الأرض عشر لفّاتٍ بشهيّةٍ أسطورية!

بعد عام على الرحيل، لعلّني أعيدُ شهيّةً شِعرية، طواها الموتُ اللندني البائس، لآخر الشعراء الفلّاحين، فوزي. لعلّني أضعُ وديعةً خضراء، باقةَ خضرواتٍ منوّعة، بصيغة فداءٍ متأخر؛ لعلّي أدركُ ذكرى قصيدةٍ من قصائد الأمس البعيد "عندما تنتهي كلُّ ذاكرةٍ من دمِ الذكرى". لعلّي أدرك قطاراً فات الشاعرَ، ولم يجاوز النخلُ وجهَه:
"يا قطارَ الشمال
يا قطارَ الجنوب
يا قطاراً تجاوزني والحقائبَ، في الليلة الماطرة.
يا قطارَ الغرابة ما استودعتْكَ المحطةُ رهناً
وما جاوز النخلُ وجهي".

(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024