حسونة المصباحي..يكفي أن تقرأ له قصة واحدة لتتذوق تونس

بشير البكر

الإثنين 2021/10/11
تعرفت إلى الكاتب التونسي، حسونة المصباحي، العام 1983 في تونس، في مقهى في شارع الحبيب بورقيبة. وقبل أن أصل المقهى بحوالى ربع الساعة، لمحته من نافذة الباص الذي كنت بداخله يسير على الرصيف، حاملاً حقيبة تظهر منها الكتب والدفاتر. وصلت المقهى قبله، وحين دخل حيّاني وجلس غير بعيد مني. ولأني لست من الزبائن الدائمين خمّن أني لست تونسياً، فجاء صوبي وسألني فوراً ما إذا كنت أعرف المصور الفلسطيني الشاب خالد؟ نعم التقيت به مرات عديدة، وحدثني عن رحلة إلى مدينة القيروان لتصوير تحقيق صحافي عن مجانين المدينة لمجلة "كل العرب" التي تصدر من باريس. وكان المصباحي هو صاحب ذلك التحقيق الذي يعكس حساً مهنياً ذكياً. وتكررت اللقاءات بعد ذلك، وتعرفت من خلاله إلى عدد من الكتّاب والصحافيين والمثقفين، الذين كانوا يمثلون الثقافة الأخرى خارج المؤسسات الرسمية، وبين هؤلاء يمتاز المصباحي، مثل صديقه اللدود خالد النجار، بأنه تعرف من كثب إلى الثقافات الأخرى العربية والأجنبية. سافر في العالم العربي وأوروبا، وخالط الصحافيين والكتّاب، وعمل في الصحافة العربية المهاجرة، كصحافي وناقد ومترجم.

المصباحي قاصّ صاحب صوت خاص. صدرت له خلال فترة 12 عاماً، أربع مجموعات قصصية: "حكاية جنون ابنة عمي هنية" (1986)، "ليلة الغرباء" (1997)، "السلحفاة" (1997) و"هذيان في الصحراء". وتشكل هذه المجموعات القصصية جزءاً مهماً من منجزه ككاتب تفرغ للرواية، ويظل النقاد يقفون أمامها ويشهدون بقوتها وتميزها، لأنها أخرجت القصة القصيرة من مقاهي المدن وحاناتها ومطاعمها ونواديها، لتذهب بها إلى البوادي والأرياف المنسية والمهملة في الأدب التونسي الحديث. وهذا لا يقلل من مكانته كروائي حجز مكاناً خاصاً بين الروائيين الذين الذين نجحوا في تكوين شخصية ذات حضور خاص، وعالم روائي متحرر وثائر على النماذج الجاهزة، ولذلك يعد أحد الروائيين التونسيين الذين ثابروا، مثل مواطنه وابن مدينته القيروان الحبيب السالمي. وصدرت له، بين 1995 و2020، 11 رواية، ترجم البعض منها إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية، الأولى هي "هلوسات ترشيش"، (ترشيش اسم تونس بالفينيقية) التي قدمته روائياً يمتلك ملكة السرد التي وظفها في التنقيب داخل الفضاء التونسي عن عناصر القوة والتميز والاختلاف.

وحين طرح بعض التونسيين، بعد ثورة 2010، سؤالاً عن الهوية التونسية، كان جواب المصباحي أن المغنية صليحة هي الهوية. وكان ذلك رداً على المشككين في الهوية التونسية بنظريات فضفاضة، ويحاولون نسفها بشعارات لا علاقة لها بالواقع أو التاريخ. وبفضل هذه الرواية أصبح في خريطة الروائيين العرب، ومنذ ذلك الوقت يشتغل بانتظام، ويصدر له عمل روائي بمعدل كل اربع سنوات، رغم أنه لم يستقر في مكان واحد، وتنقل بين تونس وألمانيا حيث عاش قرابة عشرين عاماً في مدينة ميونيخ، لكنه قرر أن يعود إلى تونس، ورجع ليعيش في المنطقة التي شهدت ولادته العام 1950. وفي قرية الذهيبات، بنى منزلاً واسعاً، نقل إليه مكتبته التي فتحها أمام فتيات وفتيان القرية، ومعهم يلتقي أسبوعياً ليساعدهم في دروس الأدب والفلسفة والتاريخ، ويعمل على تحويل جانب من هذا البيت إلى مركز ثقافي ومكان إقامة للكتّاب الذين يزورون تونس، وتشكل المنطقة التي يسكنها في ريف القيروان بيئة مثالية للتفرغ من أجل الكتابة بفضل بُعدها من صخب المدينة، وقربها من عوالم الريف.

وحين اختار المصباحي في العام 1985 أن يقيم في المانيا (ميونيخ)، كان المبرر الأول أنه وجد عملاً، سكرتير تحرير مجلة "فكر وفن" التي كانت تصدر باللغة العربية برئاسة تحريرها للكاتبة والمثقفة الألمانية اردموته هيللر. ومن ناحية أخرى كانت فرصة للمصباحي كي يتحرر من الثلاثي الذي لازمه لسنوات في بلده: الجوع، التشرد، والخوف. فقد عرف السجن في فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، وفقد عمله في تدريس اللغة الفرنسية بسبب موقفه السياسي.

وصار يعتمد في مصدر دخله، على العمل في الصحافة الصادرة في الخارج، وجاءت فرصة "فكر وفن" لتفتح له الباب على عالم جديد، وهو الحياة والعمل في أوروبا التي قرر أن يغادرها منذ سنوات ليعود إلى القرية مسقط الرأس في ريف مدينة القيروان. وكانت العودة إلى تونس العام 2004، مغامرة، بعدما أسس حياته في ميونيخ، ويبرر هذا القرار بأن القرية هي المكان الأول الذي ولد وعاش فيه وظل يسكنه ولم يتمكن من نسيانه، مقتدياً بقول الكاتب الألماني ف.ج زيبالد: حين يتقدم المرء في السن يستعيد المكان الأول. لكن أهل القرية تساءلوا: لماذا عاد، وماذا حمل معه؟ وكان ردّه أنه خان أجداده في الكثير من الأشياء إلا في الترحال. وهو رحل وراء الكتاب والكتابة، وعاد ومعه مكتبة كبيرة، وكتب كثيرة هو كتبها، بين قصص وروايات وأدب رحلات ومحاولات أخرى، ويقول إنه وقع تحت تأثير الكتابة والكتاب منذ أن لمس الكتاب الأول في طفولته وكان القرآن الكريم.

مشروعه كقاصّ متميز، لفت إليه إنتباه كاتب مهم للقصة القصيرة هو المصري يوسف إدريس، الذي قدم شهادة منصفة حين قال عن قصص المصباحي، "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة كما لو انك عشت في تونس عشرات السنين". وجاء هذا الاعتراف بعدما توطدت العلاقة بينهما إثر تعارف في "مهرجان أصيلة"، ولقاء آخر في القاهرة. كان ادريس قد قرأ قصص المصباحي، وأعجب بها، وهو القاص الذي يُعدّ من أهم كتّاب القصة العرب. وأول قصة شدت الإهتمام إلى المصباحي، هي "لدغة الأفعى"، عن طفل في ريف القيروان الفقير يتركه أهله، ويذهبون أسابيع للعمل في الحصاد، وهي قصة عن الجوع والعطش والفقر في الريف، وعن الطفولة أيضاً التي يعتبرها غابرييل غارسيا ماركيز "أهم حدث يعيشه الكاتب في حياته"، وكل ما كتبه صاحب جائزة نوبل هو حكايات جدّه.

ولفت الانتباه أن المصباحي كتب كتاباً حول سيرة بورقيبة "رحلة في زمن بورقيبة" العام 2012، بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني 2011. وهو عبارة عن استعادة لزمن بورقيبة الذي أسس الدولة التونسية الحديثة، وكان عرضه لحياة هذه الشخصية التاريخية، التي اختلف حولها التونسيون بين حداثيين ومحافظين، محاولة للقول بأن بورقيبة ما زال يعيش بيننا، بوصفه الأكثر استنارة، رغم أن القريبين منه في أعوامه الأخيرة دمروا صورته، إلا أن التونسيين يحسون بطعم حلو في أفواههم حين يتحدثون اليوم عن بورقيبة.

ومن بين القضايا التي شغلت المصباحي، هي مسألة الصداقة بين الكتّاب، والتي تُعد نادرة، وتبقى معرضة للاهتزاز، وخاضعة للمزاجيات والذاتية المرَضية لدى الكثيرين. وتناولت الصحافة التونسية العلاقة بينه، وبين صديقه الشاعر أحمد الصغير أولاد أحمد الذي رحل العام 2016، وكتب عنه المصباحي كتاباً بعد رحيله بعنوان "أحلام أولاد أحمد الضائعة". أراد من ذلك رثاء جيل أولاد أحمد، الذي لم يحقق شيئاً من أحلامه، لكن هناك من فسره بأن المصباحي يتناول الشاعر الذي حظي بشعبية في الوسط السياسي التونسي، وربطها بعض آخر بأسلوب المصباحي في الاستفزاز، وكتابه "رسائل إلى أصدقاء بعيدين" شاهد على ذلك، فهناك رسائل إلى كتّاب هو في قطيعة معهم بسبب ما يصفه بـ"الغدر"، ومع ذلك لم يسقطهم من الحساب، ونشر الرسالة التي كتبها قبل أن يقع الغدر، ولم يعدل فيها بعده.

يبقى أن رحلة المصباحي لم تكن سعيدة، رغم أنه كتب كتاباً بهذا الاسم (بحثاً عن السعادة). فمن ناحية، لم يلق التكريم في بلده، ولم ينل حقه من النقد والأضواء الإعلامية، بل تعرض لحروب ومواجهات من المؤسسة الرسمية والأدباء. ولم تكن السعادة في نهاية المطاف، إلا في ريف القيروان، "في ركن صغير مع كتاب صغير"، على حد قول كاتب من العصور الوسطى.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024