الصحافة الثقافية المصرية.. الوجع الخاصّ في قلب أزمة عامّة

شريف الشافعي

الأربعاء 2021/09/15
في خضمّ أوضاع قاسية، دفعت الصحافة الورقية برمّتها في مصر إلى نفق مسدود، وأجبرت بعض الإصدارات العريقة على تقليص صفحاتها، أو التوقف، أو التحوّل إلى صيغة إلكترونية، فإن الصحافة الثقافية على وجه الخصوص، من جرائد ومجلات وملاحق أدبية وغيرها، تتحسس جنبها أكثر من غيرها مستشعرة الحرج والخطر، فهي الأقرب في الوقت الحالي إلى يد التهديد والتصفية، التي أطبقت في منتصف يوليو/تموز الماضي على رقاب الصحف المسائية المصرية، ومنها صحيفة "المساء"، التي تأسست العام 1956 كأول جريدة مسائية في العهد الجمهوري بمصر.

وكان قد صدر قرار عن الهيئة الوطنية للصحافة بتحويل هذه الصحف المسائية (المساء، الأهرام المسائي، الأخبار المسائي) إلى إصدارات رقمية "بي دي إف" تابعة للبوابات الخاصة بالمؤسسات الصادرة عنها، بوصفها باتت عبئًا على المؤسسات، أو على ميزانية الدولة بمعنى أدق، في ظل الخسائر المادية للمؤسسات الصحافية، وتفاقم مديونياتها. وبالفعل انتظمت هذه الإصدارات في ثوبها الإلكتروني الجديد اعتباراً من 15 يوليو/ تموز الماضي، واعتبر الكثيرون هذه النقلة الفجائية بداية النهاية للصحافة الورقية بمصر، فيما نظر إليها آخرون بوصفها مَعْبَرًا طبيعيًّا إلى التطوير، ومحاولة لمواكبة لغة العصر، والاستجابة لذائقة الجمهور، لاسيّما الشباب وصغار السن.

المثير، أن غالبية الجدل الدائر في هذا السياق، تتمحور حول التاريخ والظروف والملابسات والإجراءات، وليس حول المحتوى الصحافي نفسه كنتاج فكري وفني حرّ ومتنوع ومتفوّق. بمعنى أن المدافعين عن الإصدارات الورقية كفكرة قد لا تصلح للتطبيق بقدر ما أنها عنوان للتضحية، ينطلقون من منصة العراقة والأصالة والنوستالجيا، فيما ينطلق مناصرو إلغاء الصحافة الورقية من أرضية الانحياز إلى التكنولوجيا وسرعة ملاحقة الأحداث، وعدم القدرة على تحمّل ارتفاع أسعار الورق والأحبار وتكلفة الطباعة في ظل تراجع المبيعات وانحسار الإعلانات والكساد الاقتصادي، وما نحو ذلك من أمور وشواهد، هي ذات أهمية كبرى بالتأكيد، لكنها وجه واحد فقط من وجوه القضية الشائكة.

وما يعمّق جراح الجرائد والمجلات الثقافية في مصر، أنها تواجه مآزق الصحافة الورقية النمطية الشائعة من ناحية؛ مثل أرقام التوزيع الباهتة وعدم القدرة على تدبير موارد مستجدة دائمة، وعدم التمكن من الوفاء بحقوق أصحاب الأقلام، ومن ناحية أخرى فإنها تواجه مأزقًا أكثر حدة، يصعب تجاهله أو التهوين من شأنه بالنسبة للإصدارات المتخصصة في الإبداع والنقد والفكر. هذا المأزق، ببساطة، هو المضمون الذي تقدّمه فوق ميزان التقييم الحسّاس، فمحاسبة محتوى الجرائد والمجلات النخبوية ليست كمحاسبة محتوى الصحف العامة بطبيعة الحال، التي كادت تتحول إلى نسخ متكررة من البيانات الحكومية الرسمية، والنشرات الوزارية والمؤسسية، بدون أي مجال للابتكار في العرض، أو أي منفذ لتمرير الرأي الآخر والسماح له بالمناقشة والانتقاد.

إن نظرة الكثيرين إلى الصحف الورقية اليومية الراهنة، باعتبارها إصدارات روتينية تعيد ترديد ما يُملى عليها آليًّا، وظنهم أن هذا هو دورها، كونهم لا يطالعون غير ذلك في المطبوعات المحلية، من الصعب تصوره بالنسبة للجرائد والمجلات الثقافية، التي يتوقع منها القرّاء؛ المثقفون بالضرورة، أن تكون مصابيح للاستنارة والتفتّح، ومشاعل للانفلات والابتكار والتثوير، وروافد خصيبة لإثراء القوة الناعمة في تشكلها الداخلي وامتدادها الخارجي.

ومن ثمّ، فإن ما قد يعتري هذه الإصدارات النوعية، من أحادية في الطرح، وانتكاسة في مؤشرات الحرية والتعددية، وتحجّر وروتينية في التخطيط والإدارة، سوف يلغي مبرر وجودها من جذوره، بخاصة أنها ليست من الأبواق السيّارة واسعة الانتشار، التي قد تعوّل عليها السلطة في تمرير رسائلها، أو تتكبد الحكومة خسائر مالية متراكمة من أجل الإبقاء عليها، وقد بلغت هذه الدرجة من التسطيح والعقم.

إن الطامة الكبرى في أكثرية الجرائد والمجلات الثقافية بمصر هي تنامي تبعيتها إلى المؤسسات الرسمية التي تصدرها، بكليشيهاتها الفجة وتوصياتها المسيّسة وعناوينها الشعارية المقولبة وانتهازياتها الصغيرة، وذلك على حساب التفاتها إلى الثقافة المجرّدة والمثقفين المستقلين والرؤى الطليعية المكتفية بذاتها، من خارج منظومة التوجيه السلطوية، أو دائرة الاستقطاب والتدجين، أو شلل المصالح الضيقة والانتفاعات المتبادلة، أو ما يُعرف اصطلاحًا بـ"الحظيرة"، وهو التعبير الذي نشأ في عهد وزارة فاروق حسني (1987-2011)، ولا يزال منسحبًا على اللحظة الحالية، حيث يُنظر إلى مَن هم خارج هذه الحظوة من المثقفين بالتشكيك وربما بالتجريم والتخوين.

في هذا المناخ المناوئ، سيلجأ قرّاء الصحف الورقية العامة بالضرورة إلى البديل الإلكتروني الأكثر مرونة وحرية ومنطقية وآنيّة وتفاعلية، وإلى مواقع السوشيال ميديا غير الخاضعة للرقيب، منصرفين عن الوسيط الورقي التقليدي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعد اختزال فنون الصحافة المعروفة وأدوارها النضالية التاريخية  كصوت للشعب إلى مجموعة من التعليمات اليومية الجاهزة والبرمحيات المحددة التي يجري تلقينها لصحافيين لم يعد من حقهم أن يبرزوا مهنيتهم واحترافيتهم إذا أرادوا ذلك.

وبدورها، في المناخ الطارد للأنفاس ذاته، فإن الجرائد والمجلات الثقافية الورقية تزداد يومًا بعد يوم عزلة وانحسارًا وابتعادًا عن المتلقي، وعن الأهداف التي نشأت لأجلها. فبدون ضمانة الحرية، لا معنى للتفكير وللإبداع، ولا مجال لطرح وجهات نظر جادة حقيقية حول الأمور الجدلية والخلافية. وتضاف إلى ذلك، الأزمة الاقتصادية الحادّة، حال الرغبة في تسويق منتج ثقافي كهذا، لم يعد بالمستوى المأمول، ولا بالنزاهة اللازمة، لما يعتريه من تلقين وشبهات. وهكذا، يطول التضييق والتغييب والتكلّس والتوجيه والوفاة الإكلينيكية سائر الإصدارات الثقافية، سواء الأسبوعية مثل "القاهرة" (الصوت المباشر لموظّفي وزارة الثقافة) و"أخبار الأدب" (مؤسسة أخبار اليوم)، والشهرية والفصلية، مثل النسبة الأعمّ من مجلات الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، ودار الهلال، وغيرها. ولا يبدو التحول إلى الصيغة الإلكترونية طوق إنقاذ للإصدارات الثقافية المتخصصة، فالذي تهالَكَ وتآكَلَ هو المضمون الرثّ، وليس الورق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024