حُبّ على المذهب الفرنسي

جودي الأسمر

الأربعاء 2019/02/13
ترعرع الأدب الفرنسي في مساحة واسعة لطالما احتضنت غراميات الفرسان والنبلاء. روايات فرنسية مشهورة عن الحب، انحازت في مجموعها الموضوعاتي للحب المنطوي على الفروسية، المتعفف عن الشهوات. وتوغلت هذه الروايات في قدمها حتى القرون الوسطى، حيث كان لا بدّ أن يكون طالب الود فارسًا على صهوة جواد يسعى لخطف قلب الحبيبة، فينزل الحلبة ليبارز ببسالة ويهدي روحه لسيدة قلبه. في المقابل، قدّم هذا الأدب نماذجَ غير مشجّعة على الحب المنطوي على الشهوات. وهذا ما يفسّر المعادلة التي تسبغ السمة الرومانتيكية على الثقافة الفرنسية: النزوع الى النمط الفروسي في الحب، مقابل تجسيد مغبّات الحب الشهواني وشروره.


ويبدو من الضروري التذكير بالسلطة الأخلاقية التي مارستها الكنيسة، ما جعل العلاقات العاطفية ترتبك بين التعفف والرغبة. فمثلًا، في عصر النهضة، ازداد الرقص جرأة، فظهرت في باريس رقصات ثنائية سمحت للعشاق بالتلامس، وحتى بتبادل القبل على الوجنتين. لكن سرعان ما تدخلت الكنيسة بعدما كشفت بعض الحركات مفاتن النساء. بينما الوثنية التي سبقت المسيحية لم تفرض الأخلاق والعفة على النساء، ولم تكبل الشهوات في القيود الشديدة. وما كان لهذه القيود أو الأغلال الكنسيّة سوى أن ضاعفت من حدة العاطفة لدى العشاق، وجعلت الممنوع مرغوبًا، فجاء ما يعاكس تمامًا إرادة الكنيسة، في قصص علاقات محرمة ستظهر في أدب القرن الثامن عشر مع رواية "العلاقات الخطيرة" للاكلو، وشخصية "دونجوان" الذي يباهي بإيقاع الفتيات في شرك الغرام، وقد بلغ مجموع غزواته العاطفية ما يناهز الـ140 علاقة عابرة.

"الأميرة دي كليف".. الحبيبة الفارسة
بداية، سيطرت النزعة الفروسية على آداب وأدبيات العشق الفرنسي في القرون الوسطى، كقصة تريستان وأيزولت، وقصص فرسان المائدة الصغيرة، أشهرها قصة الفارس "لانسلو". وجُعل الحب، لدى فرنسيي القرن السابع عشر، مقرونًا بالشرف، حيث تتراجع الرغبة الجسدية الى المرتبة الثانوية، بل وتتلاشى أحياناً. وأهم كتّاب ذاك العصر، مثل راسين ولافاييت، تحدثوا عن هذه الانفعالات بلهجة متحفظة، ولم يخفت وهج الحب الرومانتيكي النبيل قبل أن يترك رواية "الأميرة دي كليف" في توليفة تكاد تشبه المعجزة.. لأنها تتمتع بتوازن مثالي بين قوة العواطف ولهجتها المعتدلة في سرد طويل استثمره الاطار الواقعي. واللافت أن سمة الفروسية، في نبلها وإيثارها الواجب على العاطفة، لم تقتصر على الرجال، بل في تلك القصص ثمة سيدات تمتعن بقيم الفارس. فالأميرة دو كليف التزمت بمبادىء خلقية عالية ولجمت حبها لمسيو دي نيمور، وفاء منها لزوجها الذي لم تحبه، والذي مات حزنًا بعدما اكتشف حقيقة برود زوجته حياله. فبعدما تنازعتها الرغبة والواجب، اختارت الواجب!


لغة العشاق.. شيفرات ورسائل
من المنطقي، والحال هذه، في مجتمع حيث يلجم الجنسان مشاعرهما الحميمة، أن يعتمد التخاطب بين الأحبة على لغة حبّ غير شفوية، زخرت بالرموز والايماءات والإيحاءات. في تقرير بثته "فرانس 24" في برنامجها "أسرار باريس"، كان يكفي أن تفتح امرأة مروحة يد تخبئ بها فمها حتى تفصح عن حبها. وإن عدت المرأة أصابع مروحتها فهي تدعو المعجب بها الى محادثتها، وإن اوقعتها والتقطها الرجل باليد اليسرى فهو يعرض عليها موعداً، تكون قد قبلت به المرأة إن استلمتها باليد نفسها. وإذا أوقعت السيدة قفازها، فهذا دليل أنها قبلت بالموعد، لكنها لو قلبت قفازها فهذا يعني أن العلاقة انتهت. واستمرّت هذه اللغة المشفّرة حتى القرن الثامن عشر، حينما بات مقبولأ أن تفصح المرأة عن حالتها العاطفية، من خلال رموز توضع على الوجه. فصارت النساء تلصق شامة سوداء من المخمل، تضعها الرزينة على الذقن، واللعوب على الخد، والراقية على الجبين، والشغوف قرب العين، والمرأة التي تريد ممارسة الجنس تلامس شامتها شفتيها. وعلينا أن ننتظر حتى نهاية القرن العشرين لتقبّل النساء اللواتي يكسرن هذا التقليد واللواتي يبادرن بالتودد للرجل. إذ يوضح المؤرّخ لعلاقات الحب في فرنسا، جان كلود بولون، أن نساء القرون الوسطى اللواتي يبادرن بخطوة أولى نحو الرجل يجنين احتقار المجتمع، وتهبط أسهمهن في الزواج لأن الرجل يعتبر أنهن يمتلكن من الجرأة والشبق ما يكفي لخيانته بعد الزواج.

وكانت الرسالة، الوسيلة المفضلة لتبادل الكلام، والمفتاح الذي لا يخيب لقلب الحبيب. ولتعزيز حظوظهم، فضل كثيرون الاستعانة بكاتب محترف لصياغة رسائلهم، حتى يقال أن لويس الرابع عشر كان يلجأ لخدمات المركيز دو دانجو ليصوغ رسائله للدوقة دو لا فاليير، لترد عليه برسائل خطها المركيز ذاته.

كذلك، انعكست تأثيرات هذه اللغة الاجتماعية في الأدب، فدرج في القرن الثامن عشر نموذج أدب الرسائل كما في رواية "جولي" أو "هيلويز الجديدة" لروسّو، تلتها بعد نحو عشرين سنة رواية "العلاقات الخطرة"، حيث جسد لاكلو واقعية متطرفة في فسادها، داخل المجتمع الارستقراطي الفرنسي الذي استدرجه الرفاه المبالغ فيه الى الحب الشهواني الذي يصفه أندريه موروا في كتابه "وجوه الحب السبعة" بالحب الداعر، ويتخذ من رواية لاكلو مثالًا وافيًا عنه.

بين الرومانتيكية والشهوة
الجديد في الأمر أن الرومانتيكية تماهت مع الخيال في "هيلويز الجديدة" لروسو الذي كان يعتقد بأن الانسان مفطور على اتباع "الحاسة الباطنية التي توجهه الى فعل الصواب"، وإن لم يفعل هذا فلأن المجتمع يحيد به بعيداً من هذا الطريق. فحتى في القرن الثامن عشر، استطاع روسو أن يلفت الأذهان الى الرابط بين العواطف والمشاعر، وبين جمال الطبيعة الذي احتشدت به مشهديات مختلفة في هذه الرواية. ففي وسط الأجواء الغارقة في المجون والعلاقات المشبوهة، يعود الحبّ النبيل الى الصورة، لتحلّ "هيلويز الجديدة" كبدعة أخلاقية أثارت فضول الناس وإقبالهم.

الحب المُنافي للفروسية، كما وصفه ومارسه لاكلو، ينبع من عقلية ذلك المجتمع الذي انتهج إطاحة مقاييس المجتمع والعواطف والأخلاق. هذا في الظاهر. لكن، رغم أن رواية لاكلو توحي بالترويج لعلاقات الشهوة، يقرّ الكاتب بلسان المركيزة دي ميرتوي بالشرور التي يحملها هذا العشق. لقد كانت المركيزة تستقبل العشاق في بيتها، وتتباهى بمغامراتها في خطابها الى فالمون، شريكها في المؤامرات العاطفية. فتقول ناشدة مراتب أعلى في التحرر "ماذا فعلت أنت ولم أفعل أنا أكثر منه ألف ضعف؟". لكن الشخصية تنتهي الى الاعتراف بأن المتع الجنسية تجلب السقم والسأم، إن لم تنبع من عاطفة حقيقية. وهكذا، من قلب الرغبات المتطرفة والجنس المباح، ينبذ الأدب الفرنسي الحب المنطوي على الشهوات، حيث الرغبة التي تقرب العاشقين، سرعان ما ستتحول الى اشمئزاز لا تغيره سوى غراميات على مذهب الفرسان.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024