نافالني لبوتين: إختبئ في قصرك...لن تتخلص مني أبداً!

محمد صبحي

الخميس 2022/05/12
في الوقت الذي كان جرى فيه العمل على إنشاء خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 و2 وتدحرجت النخبة السياسية الألمانية على رؤوسها في مغازلة الشوفيني القومي فلاديمير بوتين، اختفى اسم تلو الآخر من لائحة المنشقين والمعارضين البارزين: الصحافية والحقوقية آنا بوليتكوفسكايا، والضابط السابق ألكساندر ليتفينينكو، قضيا في 2006، ثم المحامي الحقوقي ستانيسلاف ماركيلوف والصحافية أناستاسيا بابوروفا والحقوقية ناتاليا إستيميروفا في العام 2009، تلاهم زعيم المعارضة الروسي السابق بوريس نيمتسوف في العام 2015. لم ينج أي منهم من محاولات الاغتيال التي نظمّتها دولة بوتين. في العام 2018، نجا العميل الاستخباراتي المزدوج سيرجي سكريبال بأعجوبة من التسمم بغاز الأعصاب نوفيتشوك. في آب/أغسطس 2020، جاء دور أليكسي نافالني وسرواله الداخلي الأزرق، حيث وُضع غاز الأعصاب القاتل الذي يعود للحقبة السوفياتية.

الإخفاق الفادح لعملية التسميم المشهودة، التي أحرجت عملاء المخابرات الروسية ونظام بوتين، أصبح موضوع الفيلم الوثائقي المشوّق "نافالني" للمخرج دانيال روهر، وهو شهادة حيّة بإيقاع تشويقي يليق بفيلم إثارة لا يغادر بطل حكايته وهو قادر على غمر مُشاهده في أحداثه، لا سيما أنه في آذار/مارس الماضي، حُكم على خصم بوتين الأهم مرة أخرى بالسجن تسع سنوات، كما أدّت الحرب على أوكرانيا في هذه الأثناء إلى تقليل الانتباه إلى حد كبير لمصيره.

قصة نافالني معروفة جيداً: الناشط والمحامي الذي ترشّح لمنصب عمدة موسكو وأصبح منافساً جاداً لبوتين في العام 2016 كمرشح رئاسي. على مرّ السنين، حظي نافالني بشكل متزايد باهتمام خاص من جهاز المخابرات المحلية FSB (حيث تربّي بوتين نفسه)، فمضايقات، ثم ترهيب، فاعتقال، وأخيراً السجن. في حزيران/يونيو 2020، أثناء رحلة دراسية إلى سيبيريا، أصيب بمرضٍ خطير، ووُجد أنه تم تسميمه بمادة نوفيتشوك. بفضل وساطة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، سمحت السلطات الروسية بنقل نافالني إلى عيادة في برلين، وهناك استعاد عافيته ببطء في كوخ خشبي في الغابة السوداء، وقرر أخيراً العودة إلى روسيا في كانون الثاني/يناير 2021. لدى وصوله إلى موسكو، وجد نفسه مقيّداً ومعتقلَاً، وبعد محاكمة صورية حُكم عليه بالسجن 9 سنوات في معسكر عقابي؛ وثمة قانون جديد يعرّضه للخطر لمدة 20 سنة إضافية.

بإعجاب وإقناع يُظهر المخرج الكندي كيف أصبح نافالني أكبر منافس للسلطة في روسيا، والتهديد الخطير وربما الوحيد لبوتين. نرى المسيرات الكبرى في أنحاء البلاد، ونافالني الجريء يحشد أنصاراً مشهودين، ويثير حماستهم: "الحكّام هم لصوص فاسدون. من هو فلاديمير بوتين؟ لصّ!"، يرددون وراءه "بوتين؟"، "لص! لص!". عند عودة نافالني، حشدٌ كبير انتظره في مطار شيريميتيفو، وتطوَّر اعتقاله لتعقبه أكبر موجة احتجاج داخل روسيا منذ سنوات.

لا يُظهر الفيلم الوثائقي صعود أبرز منافس لسلطة بوتين فحسب، بل يكشف أيضاً مدى انحراف عمل ذلك النظام الذي ساواه فولوديمير زيلينسكي مؤخراً بأدولف هتلر. يجمع الفيلم بين التسجيلات الخاصة والصور الأرشيفية والمقابلات، ويسمح للرفاق وكريستو غروزيف من شبكة الأبحاث الاستقصائية "بيلينكات" بالتعبير عن آرائهم، والتي تعيد بناء الهجوم بدقة على أساس تفاصيل الطب الشرعي، بما في ذلك تسمية القتلة، وجميعهم ينتمون لجهاز المخابرات المحلية (FSB). أخيراً وليس آخراً، يقدّم غروزيف رؤى ثاقبة لأساليبه، من السوق السوداء لقراصنة البيانات إلى تحليل مسارات الطيران إلى الإدراك المخيب للآمال بأن الناس لا يثقون فيهم وفي عملهم، لكن البيانات تقول الحقيقة في الغالب.
 

لعب جديد مع الكبار
في أحد مشاهد الفيلم الرئيسية نعاين خدعة كاشفة ومفاجئة: في نهاية العام 2020 يتصل نافالني بالرجال الذين حاولوا قتله في الصيف الماضي. الأوائل منهم قطعوا الاتصال. لكن بعد ذلك، غيّر نافالني تكتيكاته وانتحل دور مساعد رئيس مجلس الأمن الروسي. تنطلي الخدعة عليهم. يكشف الكيميائي كونستانتين كودريافتسيف، الذي يعمل في المخابرات الروسية، قصته لضحيته من دون أن يدرك ذلك. يتظاهر نافالني بكتابة تقرير حول الخطأ الذي حدث في هجوم الصيف. لمدة 52 دقيقة كاملة، يصف كودريافتسيف كيف باشر العملية مع زملائه. كيف زرعوا جرعة قاتلة من غاز الأعصاب نوفيتشوك في سروال نافالني الداخلي. كيف غطّوا آثارهم بعد ذلك. يستغرب كيف أن هدف الهجوم المسموم ما زال على قيد الحياة؟ ويؤكّد كودريافتسيف إسمَي اثنين من عملاء المخابرات اللذَين، وفقاً لبيانات الهاتف الخلوي، كانا في الموقع ليلة الهجوم.

يفعلها نافالني بهدوء يماثل سهولة تساقط توصيفات مثل "عش الدبابير" أو "آلة القتل على نطاق صناعي" من فمه. في مشهد آخر يضحك على مونتاج من اللقطات الأصلية التي تظهر بوتين وهو يكافح لتجنب لفظ اسم عدوه، مختاراً التقليل من شأنه بوصفه "مريض عيادة برلين"، فيما يردّ المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف على "هوس الاضطهاد" و"الأخبار الكاذبة"، وينبري مذيعو القناة الأولى في تقريع مطوّل، فقط ليسقط من ألسنتهم الاسم الملعون في لحظة ما. مشاهد تضع هذا الصراع في ضوء جديد، فأوجه الشبه بين المعارض الروسي والرئيس الأوكراني ملفتة للنظر. كلاهما شاب، يأخذان الشباب على محمل الجد ويودّعان الطريقة القديمة في ممارسة السياسة. لكنهما أيضاً ممثلان. في "نافالني"، يتحدث الروسي أحياناً بالإنكليزية مع أشخاص يحدثهم بالروسية في أوقات أخرى، ما يطرح السؤال: هل دُرّبوا على فعل ذلك أمام الكاميرا؟ في مشاهد أخرى، تبدو الأمور قلقة بين روهر ونافالني، فالسياسي لا يريد دائماً أن يتم تصويره، لأسباب مزاجية أو ربما كانت لديه شكوك حول المنتج النهائي.

ربما يهدف هذا البورتريه للناشط الروسي المعارض، لإنجاز شهادة مصوّرة على وحشية وغباء جهاز المخابرات الروسية وقيادته، وليس بالضرورة أن يعلمك بأي شيء جديد يخصّه، إلا أنه، بطريقة ما، يعمل مثل ضربة حظّ. إذ يعرض استراتيجيات رجال "الاستعراض السياسي"، مثل نافالني، وزيلينسكي الذي كان في الأصل أحدهم، ويعطي نظرة ثاقبة لحرب المعلومات التي تجري في يوتيوب وتويتر وفايسبوك وتيك توك، ويديرها التلفزيون الحكومي الروسي وأجهزة المخابرات. ينضح نافالني بالسلطة التي تتوقعها من سياسي يملك كاريزما نجم سينمائي، وهو كذلك نوعاً ما، ليس في أفلام هوليوود، إنما في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يأسر متابعيه بمقاطع فيديو تفاعلية. بالنسبة إليه، تعد وسائل التواصل الاجتماعي سلاحاً مهماً، وهو ما يُظهره الفيلم.

نظرة نقدية غائبة
كما أن "نافالني" يدور كثيراً حول الشعبوية، وكيفية تقديم نفسك للناس. لإيصال رسالته، يستخدم نافالني أحياناً الأدوات البلاغية نفسها التي يستخدمها خصمه بوتين. كان من الممكن أن يتعمّق الفيلم في هذا الأمر وقد يكون أكثر انتقاداً، على سبيل المثال، في ما يخصّ "مغازلة" نافالني لليمين المتطرف سابقاً. بالإضافة إلى ذلك، يتراوح الفيلم بين مَيلَين: أن يكون فيلم تشويق أو أن يصبح صورة شخصية لسياسي معارض. كما لو أن روهر لم يستطع الاختيار أثناء التحرير/المونتاج، لأنه أُعجب جداً بما رآه. ومع ذلك، لا عيب في أن الوثائقي أصبح بشكل أساسي تكريماً لنافالني. قلة من الناس شجعان مثله.

في المشهد الافتتاحي، يتضح أيضاً أنه من الصعب تخلّى نافالني عن السيطرة. عندما سأله المخرج عن الرسالة التي يودّ توجيهها للشعب الروسي في حالة موته، أجاب نافالني مضطرباً: "بربك يا دانيال، أنت لا تصنع فيلماً تذكارياً عن موتي؟ دع هذا الفيلم يكون الرقم اثنين. وتعال نصنع الآن فيلماً مثيراً". وبالفعل، "نافالني" فيلم إثارة خالص، لكن أحداثه كلها حقيقية وفظائعه موثّقة، ولا يكتفي بالشق السياسي لموضوعه نافالني، بل يقدّمه كرجل عائلة. نتعرَّف على زوجته وطفلَيه، ونرافق العائلة في نزهة في الغابة السوداء أو أثناء تسجيل مقطع فيديو في "تيك توك"، ونراه يلعب Call of Duty على هاتفه الخلوي. لغته أيضاً لغة شابّة وشعبية. يظهر كرجل عائلة محبوب ومريح، من الذين يدعمهم أطفالهم وزوجاتهم بنسبة مئة في المئة في عملهم السياسي. يتمتع بأعصاب فولاذية وروح قتالية متواصلة. مرتاح، بعد هجوم مسموم نجا منه بأعجوبة. في الواقع، يزيل الفيلم كل المشاعر والأفكار السلبية تقريباً. لا نرى كراهية ولا خوفاً ولا لحظات شكّ. العواقب المحتملة لعودته إلى موسكو؟ الخطر الدائم على حياته؟ لم تُناقش هذه الأشياء هنا.

ينطلق الفيلم من منظور نافالني نفسه، وكأنه يُملي على المخرج ما سيُعرض وما سيُحذف. لا تعليق من المخرج، القليل من الأسئلة النقدية، بالكاد أي صور أو تصريحات خارج منظور نافالني. هو مُخرج بالفطرة، ويعرف كيف يخرج كلامه بشكل يجعله دائماً يبدو رائعاً و"كوول"، وقبل كل شيء لا يعرف الخوف. بهذه الطريقة، ربما ينقل الرسالة التالية إلى بوتين: "إنطلق واختبئ في قصرك خلف مكتبك الكبير. أرسل لي قاتليك المأجورين. أنا لست خائفاً منك. روسيا هي بلدي أيضاً، فلن تتخلّص مني أبداً!". وهو يترك أفعاله تتحدّث عنه. بعد التسمم، يتعافى، ثم يعود على متن طائرة متجهة إلى موسكو، رجلاً ثابتاً. عندما يتحوّل مسار الطائرة إلى مطار آخر بسبب تجمُّع الكثير من المتظاهرين هناك، يعتذر نافالني لزملائه الركاب عن المتاعب التي يسبّبها لهم. بعد وقت قصير يُعتقل مرة أخرى.

بالنسبة للعديد من الناس في الغرب، نافالني هو بطل الحرية الذي تحدّى لسنوات عديدة بوتين الديكتاتوري، مثل القرية الغاليّة التي تتحدى الإمبراطورية الرومانية في كتب مغامرات "أستريكس" المصوّرة. مهما كان موقف المرء من نافالني وشخصيته ودوافعه، فإنه يظل في كل الأحوال مناضلاً من أجل الحق في إبداء الرأي تحت حكم نظام استبدادي لا يوفّر جهداً ولا وحشية في مجابهة أي شكل من أشكال النقد والمساءلة بكل الوسائل المتاحة. لهذا، يستحق نافالني التضامن والدعم، كما يفعل كل أولئك الذين يخوضون هذا النضال اليائس على ما يبدو في الدول الخاضعة للحكم الاستبدادي. رسالته التي يتناولها الفيلم وينشرها واضحة: "لا تستسلم. كُن فعالاً. لا تخف... حقيقة أنهم يريدون قتلي تثبت قوتنا". ولهذا أيضاً يستحق هذا الفيلم المشاهدة في وقتٍ غطّت أخبار الحرب على مصير نافالني وأمثاله.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024