عن أفلام تُفسدها المراهقة وتكلّلها الجوائز

محمد صبحي

السبت 2020/03/07
واحدة من الفوائد الجانبية للجوائز، إتاحتها الفرصة للوقوف من جديد على المنطق الحاكم في توزيع أنصبتها. ليس كل مستحِقّ ينال التقدير الملائم، وربما يأتي التقدير في وقت متأخر، وبالطبع لا تذهب الجوائز دائماً إلى من يستحقها. دليل ذلك يأتي في التتويج الأخير لفيلم "بابيشا" للمخرجة مونية مدوَّر، بجائزتي "سيزار"، لأفضل فيلم أول، وأفضل ممثلة صاعدة (لينا خودري). ولفهم التتويج – واستنكاره أيضاً - ينبغي أولاً العودة إلى بداية حياة الفيلم نفسه، فكرته واستقبال عروضه الأولى.


تقول المخرجة، بحسب الملّف الصحافي للفيلم، إن قصة فيلمها مستوحاة مما عاشته في الجزائر في التسعينيات، حياتها في السكن الجامعي وتشارُكها الغرف مع فتيات زميلات تتباين اهتماماتهن وخلفياتهن. بدافع من خلفيتها المهنية كصحافية سابقة ومخرجة وثائقية، طعّمت قصة فيلمها بمعلومات سياقية وخلفية حول الوضع الجزائري في ذلك الوقت. هدفها من ذلك هو سرد قصص نساء قويات، لعرض مسار حياتهن وثباتهن، كي يتعلّم منها الجيل الشاب.

أما حياة الفيلم الفعلية بعد اكتماله، فقد تحدّدت معالمها اللاحقة إلى حدّ كبير منذ بدايتها، باختياره للمشاركة ضمن قسم "نظرة ما" في آخر دورات مهرجان "كان" السينمائي. والحقيقة أن "كان" استطاع، بعد سنوات عمره الطويل، اختراع أنواع فيلميه تخصّه وحده. أحدها حاضر دوماً في قسم "نظرة ما": فيلم من دولة شمال إفريقية (غالباً المغرب أو الجزائر أو تونس) ذو تأثير فرنسي قوي، يقف وراءه مخرج/ة،  شاب/ة (يستلهم قصة حدثت معه أو ذات أصل واقعي)، أبطاله أيضاً شباب يواجهون المسلّمات الجامدة لمجتمعاتهم، متسلّحين بإرادتهم تحرير أنفسهم والتمرّد ضد بيئتهم بأكملها (بما في ذلك العائلة والأصدقاء)، الفاشلة دائماً في تفهُّم واحتواء دوافع ورغبات الأبطال.


بنظرة سريعة إلى تاريخ "كان" القريب، نجد في الدورات الثلاث الأخيرة - بالإضافة إلى "بابيشا" - أربعة أفلام من شمال إفريقيا في القسم إياه: "طبيعة الحال" لكريم موساوي، "على كف عفريت" لكوثر بن هنية و"صوفيا" لمريم بن مبارك، و"آدم" لمريم توزاني. أفلام، على تفاوت جودتها الفنية، جيدة تقنياً ومؤثرة عاطفياً وذات أقواس درامية جليّة ومألوفة، تتباين في توظيف الأدوات السينمائية لسرد قصصها، وفقاً لاختلاف منظور صانعيها للوسيط السينمائي وجدّية كل منهم في التعامل مع فكرة السينما.

مونية مدوَّر تختار العودة بفيلمها إلى جزائر التسعينيات السوداء، لتحكي قصة شلّة بنات تتحدّى الأعراف المجتمعية، وتختزن في نهايتها خاتمة كارثية. شخصيتها الرئيسية، نجمة (لينا خودري)، طالبة جامعية شابة لا ترضى التخلّي عن حلمها بأن تكون مصممة أزياء، رغم صعود المدّ الإسلامي وتمدّد نفوذ رقابته، كالعادة، للتدخل في حياة النساء وفرض معايير معيّنة لسلوكهن وملبسهن.

موضوع "سيكسي" جداً، بالطبع، لكن فيلم مدوّر لا يجلب جديداً يذكر، لا في أسلوبه أو في نوع قصته، في شأنٍ صار شبه مستهلك سينمائياً. غير أن المنطق التسويقي الناجح يفيد بضرورة معاودة تجريب ما ينجح مع الجمهور، بلا كلل، وإن صاحَب ذلك كلّ المَلل. الأمر كلّه، في حالة "بابيشا"، يتعلّق باختيار بطلة تعمل كصنّارة صيد، عطفاً على سياج حماية مُجرَّب توفّره الجملة السحرية "مبني على أحداث حقيقية" في مفتتح الفيلم، ثم رواية حكاية التحرّر البناتي، حيث كل انعطاف سردي ضروري بقدر سهولة التنبؤ به، وإغراء المرئيات الإنستغرامية أكثر أهمية من الاعتناء بشفافية السرد وتدقيقه.

هكذا، كما هي الحال دائماً في مثل تلك المشاريع "المسلوقة"، ينحاز الفيلم إلى القصة (ما يقوله) على حساب التجربة السينمائية (كيف يعرضه). الأسوأ من ذلك، أن الفيلم، بعد بداية واعدة، يهِبُ نفسه تماماً لمتفرجه، منكفئاً على ذاته المستنسخة من أفلام سابقة تقارب المسائل نفسها. وبالتزامه حدود الكشف المباشر عن طموحه، بإلحاح فجّ وتبسيط ساذج، ينفض عنه كلّ إتقان ملازم لأي عمل جيد، منكبّاً، تسلسلاً وراء تسلسل، على تعميق حفرة إدراكه الذاتي، فلا يستطيع بعدها أي نَفَس جديد الوصول إليه.

بهذا المعنى، لا تخفي مدوّر "رسائلها" طوال الفيلم، وصوتها حاضر دوماً في تقديم القصة للجمهور، كما لو بملعقة، خشية انصراف الانتباه عن منطقها ثنائي الأبعاد في رؤيته للصراع الدرامي (ومن ورائه تفسير الحالة الجزائرية ككل). تراهن كثيراً على نموذج سينمائي مستهلك لبناء فيلمها، بتأسيسه على مناخ حالم ووديع، ثم بعد ذروة انعطافته التراجيدية، تكرر اللجوء للصور السعيدة في بداية الفيلم، في مسعى فاشل لتأكيد فكرة يسهل تعرُّف المتفرجين عليها من دون ذلك الإفراط والإلحاح عليها، ومن دون الانجرار إلى دفع حكاية - تحمل ضمنياً تأثيرها العاطفي في تتابع أحداثها – لتغدو قالباً فضفاضاً يليق بحدوتة أطفال، أو فيديو كليب طويل.

رغم ذلك، وكالعادة، يخفي هذا النوع "الكانيّ" من الأفلام، شيئاً يستحق الانتباه: اكتشاف ممثلة شابة موهوبة تؤدي دوراً مليئاً بالغضب والرقّة، تحمل بذور حياة مهنية مجيدة. فقط لو ابتعدت عن متناول الأيدي المراهقة. وليس من دون فائدة هنا التذكير بنموذج هند صبري، التي لولا ذكائها في اختيار أدوارها اللاحقة لبزوغ نجوميتها المبكرة، لانتهت إلى هاويات سحيقة بصحبة المخرجة المصرية إيناس الدغيدي - المثال الأسوأ لأي "فنان" مُدّعٍ يستر مراهقته الفكرية بكلام كبير وقضايا مُلحّة ومداومة على إثارة الضجيج، بالاستناد إلى فهم ملتبس لوقائع عيشٍ يختبرها الجميع.

إلى ذلك، ما زال تتويج فيلم مدوّر، والحفاوة التي يتلقاها، مع غيره من أفلام، يغذّي شكوكاً ويثير تساؤلات، تتجاوزه إلى التفكير في مصير غيره من مشاريع تنتهي إلى قول لا شيء. هذا اللا شيء تحديداً يحمله نقّاد وجمهور إلى منصات الجوائز. ماذا لو جيء بوجه سينمائي لافت مثل لينا خودري، لتجسيد شخصية من لحم ودمّ في فيلم متوازن، بدلاً من التحوّل إلى روبوت ينفّذ تعليمات المخرجة في عمل معلوم النتيجة قبل أن ينتصف زمنه؟ ماذا لو رافقت هذه الصورة السينمائية المبهرة، قصة أكثر تعقيداً وإحكاماً، تعطي لنفسها مساحة بحث أعمق وروابط ذاتية أقل انتهازية، بدلاً من التغنّي البائس بتمرّد البنات الفائرات في بلد قمعي تسوقه همجية المتشددين دينياً؟ وماذا لو قلّ نفوذ جهات التمويل والمنح المالية في تحديد الصورة النهائية التي تخرج فيها المشاريع الفنية، بدلاً من استمرار الفنانين في استجداء الاعتراف والتحقّق من أطراف متغيّرة الأولويات ومتباينة الطموحات؟


في النتيجة، بتعطّل شروط تغيّر الوضع المستغرب، يستمر ظهور مثل تلك الأفلام. أفلام يفسدها التعجّل والمراهقة والارتماء بسهولة في أحضان منطق تلفيقي، يتكاسل عن توسيع دائرة تركيزه أو الحفر عميقاً في موضوعه، لرفد حكايته بتعقيدات سياقات أوسع تغذّي مضمونه وفكرته وتعطي ثقلاً وموثوقية لما يريد قوله. أفلام يحملها أزيز الثَّناء وحمّى التهليل، تتصدّر مشهداً قاتماً فكرياً، يحيا على ندرته النسبية وانسداد آفاقه والتواضع المستمر لأحلامه. لا تلتفت إلى واقعها سوى لالتقاط ما يساعدها في طبخ طبق جذّاب، قادر على مخاطبة جمهور محلّي يتمرَّغ في استغرابه الفكري أثناء مقاربته لقضاياه الداخلية، وبإمكانه أيضاً التوجّه إلى جمهور أجنبي يتحيّن الفرصة لأداء تمارينه المقدّسة في إبداء التفهّم ومصمصة شفاه التعاطف مع مآسي العالم المتخلّف، سكّان المستعمرات القديمة الرازحين تحت ثقل إرث استعماري يتوالد ذاتياً، في إدامته حالة البؤس المعمَّم وإغلاق دائرة الديكتوريات والدول الفاشلة والطاقات المُعطَّلة.

نهجٌ تبسيطي يعيد إنتاج نفسه، بأشكال مختلفة وأسماء متغيّرة، في منتجات فنية متباينة. أفلام وروايات وأشكال فنية أخرى وليدة، يجمعها ترافُق السعي التأثيري في جمهور مستعد مسبقاً، مع مداخل مألوفة لإثارة الاهتمام وصنع الحدث، تستعين برؤوس عناوين ومعرفة مُنمَّطة، لتتبيل طبختها والخروج بها في قالب سهل الهضم والتأثير. كل سنة تحمل حصّتها من هذه الأعمال الإبداعية. "بابيشا" ليس سوى مثال مفرد، يندرج ضمن مجموعة معتبرة من أعمال فنية تحظى بتقدير يتجاوز وزنها، بينما تُهمَل تجارب أهدأ نبرة وأكثر نضجاً وأقل انتهازية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024