أمين الباشا في "سرسق": صانع الجذل

روجيه عوطة

الجمعة 2017/09/22
ضمن إستعادته التعريفية لرواد الفن التشكيلي في لبنان، يقدم "متحف سرسق" معرضاً لأعمال الفنان أمين الباشا في طابقه الأول، وذلك، على شكل تحية إلى تجربته. ارتأى المتحف إختصار هذه التجربة بأساسين من أسسها، أي المقطوعة واللون، بحيث أن للباشا علاقة بالموسيقى، إذ يتحدر من أسرة اهتمت بالموسيقى، وهذا ما تجسد في أخيه الموسيقار توفيق الباشا، كما أن رسمه بالكاد يخلو من ضروب التلحين المشهدي.

لكن، بالإضافة إلى المقطوعة واللون، لا بد من التذكير بأن الباشا هو كاتب أيضاً، فقد نشر عدد من المؤلفات القصصية والنقدية والمسرحية، مثل "دقات الساعة، قصص ورسوم"، و"أليس-مسرحية في سبع مشاهد"، و"المنتحر"، و"شمس الليل"، عدا عن جمع رسومه ولوحاته في "بيروت أمين الباشا-مائيات ورسوم 1953-2009". إذاً، تتعدد وسائط الباشا، التي لا يحبذ وصفها بـ"التعبيرية"، بل الحياتية المترابطة: "حين أرسم أشعر بأني أكتب، وحين أكتب أشعر بأني أرسم"، يقول في واحدة من مقابلاته.

كما تتعدد وسائط الباشا، كذلك، تتنوع مراحل رسمه من ناحية الوجهة والموضوعة، الأمر، الذي يتعلق بالأمكنة، التي زارها وسكن فيها، وعلى رأسها، بيروت وباريس، وباللوحات، التي إطلع عليها، وتأثر بأصحابها. يحوي معرضه أربعين لوحة، تنقسم إلى التجريد، بما هو بحث وجداني أكثر منه تصويري، والخارق، بما هو تمثيل خيالي، والعشاء الأخير، وهي سلسلة تتناول الواقعة الأسطورية بالتكعيب والزخرفة، والموسيقى، التي تجمع بين إيقاع الأغراض والمسافات والمشاعر. وعلى هذا النحو الرباعي، يتيح هذا المعرض تتبع الباشا طوراً تلو الطور، منبهاً إلى أمرين، أولهما، سعة عين الفنان وغزارة ريشته. وثانيهما، خفته الخطية في كل نوع من أنواع رسومه، التي تجاور بين الألوان والأشكال، وذلك، كي لا تجعلها في إطار واحد بقدر ما تحولها إلى جمعٍ، قد يفضي إلى مشهدية بعينها، أو قد لا يفضي، لكنه، في كل الأحوال، يجذب ويفتن.


وهذا ما تشير إليه لوحاته التجريدية، التي تفيد المتفرج عليها بأنها مرسومة بطريقة محددة. فغالباً ما تظهر كأن الباشا قد جمع أشكالها من كل جوانبها، لوّنها، ووضعها، قبل أن يعمد إلى تعيين الحدود بينها، ثم، يمضي إلى القفز بريشته فوقها، تاركاً إياها تتحادث، بمعنى تتداخل وتخلق وقعها. على أن التحادث بين هذه الأشكال، التي تتمايز بألوانها المتدرجة، هو تحادث جذل، ويزداد جذالاً حين يقدم مشهداً ما، أكان شخوصياً أو طبيعياً صامتاً. فالباشا يصمم الجذل، وحتى طائره، الذي يحلق فوق مدينته، التي لا يخفي حنينه إلى ماضيها المفقود، يبدو مسروراً بحاضرها، وفاتحاً أجنحته فوق مكعباتها، التي تحيل إلى جبل من الركام المبرقش.

وربما، قد يكون اللافت في معرض الباشا هي منحوتاته، التي لا تنفصل عن لوحاته، بل إنها تؤكد على أن فنانها لا ينحتها، أو يركبها، بل يرسمها أيضاً. إذ تبدو من ذات نمط أشخاص وأغراض وأشياء رسومه، لكنها، قائمة بحالها، وبأجسامها، التي تتألف من قطع متلاصقة، أما، ألوانها فتوفر لها مواقف وملامح، من قبيل التباغت، أو البكاء. فمجسمات الباشا، ولوهلة، ومن شدة تطبعها بمناحي رسمه، تحيل إلى أنها فلتت من لوحاته، وها هي تحاول العيش باستقلالية عنها، وأول عيشها هذا هو ضرب من الشعر، الذي تتصف به.


على مدى ستين عاما، صنع أمين الباشا دنيا من الألوان والحبر والأشكال والأوضاع الزيتية والمائية، القماشية والخشبية، وعلى مدى ستين عاما، وبدون توقف، صنع دنياه من وتائر مختلفة، لا يحدها إطار، ولا يشوبها جمود. تدخل يد الباشا الجذل إلى كل موضوع تتناوله، تطربه، ولو كان ميتاً، لا سيما أنها لا ترسمه فقط، بل تكتبه، وتلحنه، وتنحته، وتخططه أيضاً.

 

 

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024