أن يُكرَّم أمين معلوف..

محمد حجيري

الثلاثاء 2020/03/03
غداة تقليد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الروائي أمين معلوف، وسام الاستحقاق الوطني برتبة ضابط، عنونت وكالة "رويترز" تقريرها: "تكريم أمين معلوف في باريس يرفع الروح المعنوية في لبنان". وجاء في مقدمة التقرير: "من بين ركام لبنان المالي والاقتصادي سطع نور ثقافي تمسك بأهدابه اللبنانيون...". وقال حسان دياب، رئيس الحكومة اللبنانية: "يضيف هذا التكريم (لأمين معلوف) من عزيمتنا للعمل الدؤوب في سبيل مواجهة التحديات وإعادة صورة لبنان المشرقة التي يفتخر بها جميع اللبنانيين". ولم يتردد زعيم "مواجهة التحديات" في اليوم الثاني في القول، وكأنه متظاهر في ساحة رياض الصلح، وليس القاطن في السراي الحكومي، صادماً اللبنانيين: "الدولة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها"، ومنزعجاً بعد ساعات من منتقدي تصريحه الذين اعتبرهم "اوركسترا تشويش"...

وفي سياق التمجيد بأمين معلوف، اعتبرت وزيرة الإعلام، منال عبد الصمد، في تغريدة لها، وبشيء من الغرور الأجوف أن "اللبنانيين أينما حلوا يحجزون مكانة متقدمة لهم". وغرّدت النائبة رولا الطبش، عبر حسابها في "تويتر": "في عتمة الأزمات المؤلمة، بقعة ضوء لبنانية تذكرنا بأن وطننا غني بأبنائه، أينما حلوا. فقد قلد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الكاتب اللبناني العالمي أمين معلوف، ولم يتردد أحد الزملاء في وضع التكريم ضمن الهبّة الثورية المجيدة. الأرجح أن أمين معلوف حين يقرأ تصريحات "ساكن السراي" وصحبه ويرى المشهد في لبنان، سيقول: الحمدالله أني صرت فرنسياً قبل عقود، قبل أن أرى هذا الواقع المرير"...

من دون شك، حين أصدر معلوف رواياته وكتبه "الحروب الصليبية كما رواها العرب"، و"سمرقند" و"ليون الإفريقي"، ثم ترجمها الراحل عفيف دمشقية الى العربية، شكّل ظاهرة لدى القارئ الغربي والعربي. فهو استعمل "الرواية التاريخية" بأسلوب جديد يختلف عن أسلوب جرجي زيدان وغيره من العرب واللبنانيين. وباتت الرواية، على طريقة أمين معلوف، موضة أو "إكزوتيك" يستعمل العناصر الشرقية المطلوبة من أجل "الذائقة الغربية". وطبعاً حين يرضى الغربي عن موجة كتابية ما، سيتلقفها القارئ اللبناني والعربي.

ولم يقتصر الأمر على القارئ، بل هناك موجة روائية، أمين معلوف جزء منها، تستلهم التاريخ والشخصيات التاريخية، سواء الكسندر نجار، اللبناني الذي يكتب بالفرنسية، أو رفيق شامي السوري الذي يكتب بالألمانية، أو أليف شافاق التركية، وحتى ربيع جابر في جانب من رواياته. وموضوع الرواية والتاريخ، طويل ومتفرع، ويختلف بين روائي وآخر، بين رواية تبحث عن قارئ وأخرى تستلحق الموضة، وثالثة تزعم الثقافة.. هذا الى جانب موجة الروايات التي تبحث عن هويات أشخاص مثل "ليون الأفريقي"، وهي ليست جديدة في الثقافة، متعددة الولاءات والتحولات، وتتجسد تحديدًا في شخصية كاتب مثل أحمد فارس الشدياق، والكثير من الشخصيات الصوفية... واليوم، تبرز هذه الموجة بقوة، في استلهام شخصيات مثل الشاعر جلال الدين الرومي، الذي نجد عنه عشرات الروايات، أو شخصية الموريسكي العربي الذي اختبأ في دِين آخر هرباً من القمع الديني...

وأياً تكن القيمة الأدبية لروايات أمين معلوف. لكن في "مجده العالمي"، جوانب من السياسة. فالروائي آتٍ من عائلة أدبية، كتب عنها سيرته "بدايات"، وهي ترصد تحولات اللبنانيين في تبدلات الولاءات والانتماءات في العالم، وهو صحافي كان مهتماً بالاقتصاد، ولم يتردد في شبابه في أن يكون شيوعياً ويسارياً وكارهاً لحزب الكتائب. يصرّ القيادي الشيوعي الراحل، جورج بطل، في مذكراته (حوار فواز طرابلسي) على القول بأن معلوف كان شيوعياً أو منتسباً الى الحزب الشيوعي، ويذكر كثيرون أنه كان صديق القيادي الشيوعي خليل الدبس. لكن معلوف يتنكر لمرحلة الشيوعية الشبابية في كتاباته. في سن الثانية والعشرين، بدأ العمل في جريدة "النهار"، وافتتح ترحاله حول العالم لتغطية الأخبار العالمية، فزار 60 بلداً. بعد سفره الى فرنسا، هرباً من جَور الحرب الأهلية، عمل في البداية في مجلة "جون أفريك"، حيث كتب للمرة الأولى في حياته بالفرنسية، وأصبح لاحقاً رئيس تحرير المجلة. خلال العامين 1979 و1982، كان مدير طبعة "النهار الأسبوعي"، التي كانت تصدر في باريس، قبل أن يعود إلى "جون أفريك". صعد نجمه في "الروايات التاريخية" في الثمانينات من القرن الماضي، وسرعان ما دخل بوتقة التوظيف السياسي بعد رواية "صخرة طانيوس"، إذ فاز بجائزة "غونكور" العام 1993، وزار لبنان في جولة جاءت في إطار نهاية الحرب وانبعاث الأمل.

ونُمي إلينا أنه كان يواكب الموضة السياسة، فكتب رواية "مواني الشرق"، وهي قصة حب بين مسلم ويهودية، وتزامنت الرواية الكليشيه مع زوبعة مفاوضات السلام بين العرب والاسرائيليين. كأن روايته كانت تراهن على مرحلة السلام التي وصلت الى حائط مسدود، وكان ينوي تصويرها فيلماً. وبعد تراكمات وتراكمات، بات معلوف إسماً مكرساً في فرنسا، كل كتبه موضع اهتمام وترحيب. وفي 23 يونيو/حزيران 2011، انتُخب في المقعد الرقم 29 بالأكاديمية الفرنسية، خلَفاً لعالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس، الذي توفي في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2009.

وأحدث معلوف ضجة عندما أجرى مقابلة مع قناة اسرائيلية، إذ تصرف كمواطن فرنسي، واتّهم بالتطبيع. وسرعان ما رد المهندس جاد تابت على منتقدي معلوف، قائلاً: "هل نسأل أحد الصحافيين البارزين الذي كان على رأس حملة تخوين أمين معلوف، أين كان، وإلى أية جهة انتمى حين اجتاح الجيش الاسرائيلي الأراضي اللبنانية العام 1982، وأشرف على مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها مليشيات القوات اللبنانية آنذاك؟ وهل نذكّر بأن أمين معلوف لم يكن وحده يغطي المفاوضات التي أدت الى اتفاق 17 أيار، بل كان، من بين الذين رافقوه، صحافي لامع أصبح بعد ذلك رئيساً لتحرير جريدة الأخبار"؟

في بعض كتبه، تحول أمين معلوف، منظّراً أو قارئاً لتحولات العالم، هي أشبه بمقالات صحافية، وهو هاجم ما يسمى "ثقافة البترودولار" ولا يتردد في تلقي جوائز منها، ويحل ضيفاً مكرّماً في أروقة مؤساساتها..

بات معلوف، اليوم، إسما بارزاً في عالم الرواية الرائجة... وفي مواقفه، ثمة "فينيقية ما"، على قول أحد الأصدقاء. والدرس الذي يمكن أن نستخلصه من تجربته، أنه يكتب كتباً ويعيش من ثمنها، وهذا ما يفتقده معظم الكتّاب العرب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024