إذا اعلنت بريطانيا وقف العمل بالكمامة في منتصف الصيف علينا أن نصدق. ومعنى ذلك أنها وصلت إلى مناعة القطيع. هذا المصطلح صدر للمرة الأولى من لندن في منتصف آذار/مارس من العام الماضي، ومن قبل كبير المستشارين العلميين للحكومة البريطانية السير باتريك فالانس. وكان القصد منه أنه ليس هناك سبيل لمواجهة الفايروس سوى أن تصاب الأغلبية العظمى من السكان بنسبة 60 % (40 مليون من سكان بريطانيا)، وتحصل المناعة الجماعية. ولكن الأمر مختلف اليوم فالمناعة الجماعية آتية من التطعيم الواسع الذي شمل قرابة 40 مليون، ومن الاجراءات الاحترازية على المنافذ العامة للبلد، ويشمل ذلك المطارات والمرافئ. وهي على درجة عالية من الشدة والصرامة إلى حد أن من ليس مضطرا للسفر إلى بريطانيا، لا مصلحة له بخوض تجربة الحجر لمدة عشرة أيام في فندق تحدده الدولة إذا كان المسافر قادما من دول القائمة الحمراء، وفي البيت من دول القائمة الخضراء. وفي الحالين يخضع المسافر إلى تمرين جورج أورويل في المراقبة الذكية التي لا يمكن التحايل عليها لأن العاقبة كبيرة.

الحجر الصحي او العزل الذاتي هو نمط من تجربة السجن في المنفردة، ويبدو أن صفة العزل الذاتي محاولة ذكية لرفع التبعات القانونية والاخلاقية عن الدولة. وطالما أن الأمر ذاتي، فذلك يعني ان المرء وافق على شروط الدخول إلى البلد، والتي تنطبق على الجميع من دون تمييز. وخلال مدة الحجر يتوجب اجراء فحصين في اليوم الثاني والثامن للوصول. وهذان الفحصان يجري حجزهما قبل تذكرة السفر الى بريطانيا، ويتم تسديد ثمنها الذي يتجاوز قيمة التذكرة في بعض الأحيان، فإذا كان المسافر قادما من باريس إلى لندن، فإن كلفة تذكرة القطار ذهابا وايابا في حدود 200 يورو، في حين أن الفحصين حوالي 300 يورو.

لم أجرب السجن ولكني قرأت العديد من الكتب، وشاهدت أفلاما كثيرة، ولدي عدد من الأصدقاء الذين أمضوا فترات طويلة في المعتقلات السياسية سيئة السمعة في سوريا. ورغم قسوة السجن عموما، فإن المنفردة تعتبر أم العقوبات، وهناك عدد قليل من السجناء الذين مروا بهذا الامتحان، ومنهم القيادي الشيوعي المعروف رياض الترك وذلك بأمر حافظ الاسد. وكان الهدف تحطيمه ودفعه إلى الجنون، ولكن الترك بقي متماسكا وخرج محتفظا باللياقة العقلية، وحسه الانساني وتوقه للحرية والحياة. كان الأسد يعرف في أعماقه أن الترك يكن له احتقارا لا حدود له، فأراد أن يوجعه، ويمسحه في صورة كلية، وهذا هو أسلوبه مع بقية الخصوم. المنفردة وسيلة للقتل البطيء.

ومهما بلغت التكاليف المادية، فإنها تهون أمام تجربة العزل الذاتي ذات الآثار النفسية القاسية التي تختلف من شخص إلى آخر، حسب طاقة كل فرد على ادارة الوقت طيلة عشرة أيام، لا يتخللها ولو عشر دقائق للتنفس اليومي خارج المنزل. ورغم أني كنت اقوم بالمشي داخل البيت بمعدل ساعة يوميا، فإني حين خرجت إلى الشارع بعد عشرة أيام وجدت صعوبة في السير خلال ربع الساعة الأولى، وأحسست أني مكتف، واحتجت إلى عدة ساعات حتى استطيع استعادة إيقاعي في الحركة الحرة والتلقائية.

عشرة أيام في العزلة الذاتية لن تجعل المرء يألف نمط الحياة الذي بناه، ولكنها قد تفتح الباب على احتمال التعايش مع هذه التجربة في حال كان الوقت أطول، وظروف العزل مختلفة كالسجن والاحتجاز الطويل الأمد في ظروف مختلفة لا يتوافر فيها شيء من الامتيازات التي يحظى فيها المرء خلال الحجر الصحي في بيته، حيث تتوافر مقومات تمضية الوقت من دون كلفة نفسية عالية.