البداهة اللبنانية

رشا الأطرش

الخميس 2019/05/09
للبداهة مفهوم مغاير في لبنان. هذا الوطن الزاخر بالتناقضات، والذي يجترح كل يوم أعجوبة محلية الصنع لدرجة أن أحداً من اللبنانيين ما عاد ينبهر بالأعاجيب، يَقلِب المسلَّمات. والأعجوبة بالضرورة مذهلة، أحياناً لفرط سوئها، وليست بالضرورة خيراً أو فائدة تعمّ. وفي هذا المجال، لبنان ساحر قدير، لا تعجز أزماته عن استيلاد الدهشة، مهما قال اللبنانيون إنهم اعتادوا مفارقات الحياة في ربوعه، وهم اعتادوها لدرجة التبلّد والاستسلام. لبنان الذي يجعل إعادة التفكير في ما يفترض أنه محسوم، قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً، تمريناً مجهداً، رغم بساطة الأسئلة التي يفرزها، وبساطة إجاباتها.

يفترض ألا نفكّر مرتين، مواطنين وصحافيين ومدافعين عن الحريات والديموقراطية والشفافية، قبل إعلان التضامن مع جريدة لبنانية داهمتها قوى "أمن الدولة"، وفتشت كاميرات المراقبة فيها، وسألت عن عنوان رئيس تحريرها. يفترض ألا نتردد في القول إن الصحافة محرّمة على الأمن، وأن لأخطائها – إن ارتُكبت – المسار القانوني والقضائي الخاص بها. ومع ذلك نبذل جهداً لتغليب المبدأ على ما نعرفه جميعاً عن جريدة "الأخبار" من ممارسة ترهيبية متترسة بالـ"مهنية" وحرية الرأي، وعلاقات أمنية واستخباراتية أعمق مما هو معروف عن معظم وسائل الإعلام اللبنانية. في النهاية، يغلب المبدأ بالطبع، والحرية دوماً فوق الأجهزة، لكن صحافة "تحسسوا رقابكم" و"سندخل غرف نومكم" تحيل البديهيّ تحدياً، وتجعل التمسك بالقناعة الأمّ قَبضاً على الجمر.

وبالمثل، يفترض ألا نجد أي عادية في وزير (السلك الدبلوماسي دون سواه!) يطلب من جهاز أمني التحقيق في تسريب من وزارته، ولا في منظر تطويق وزارة الخارجية (اللبنانية لا الباسيلية). وتفترض البداهة أن نتوقع استقالة الوزير المعني بتسريب معلومات دبلوماسية حساسة لإحدى الصحف، أياً كان المسرّب، أو على الأقل أن ننتظر اعتذاراً، وتحقيقاً مدنياً إدارياً في الموضوع عبر الأجهزة الدولتية المتخصصة. لكن البداهة اللبنانية لا تشبه إلا نفسها. إذ يدرك الجميع كيف أن هذا الجهاز الأمني محسوب على ذاك التيار، وبالتالي يبدو "طبيعياً" استنجاد الوزير جبران باسيل بـ"شُرطته" لضبط خلل في "بيته" ولمساءلة جريدة حليفِه "حزب الله". والخريطة جاهزة في أذهان اللبنانيين. ولو كان في الإمكان وصل أي دماغ لبناني بطابعة ملونة، لحصلنا بكبسة زر، على "انفوغراف" واضح، يبيّن تبعية كل جهاز أمني لكل زعامة طائفية بصرف النظر عن المسمّيات الرسمية، أكانت وزارة أو رئاسة حكومة أو حتى رئاسة جمهورية... شعبة معلومات، أو أمن دولة، أو أمن مطار..

والسلسلة تتوالى بأمثلة كثيرة، يكفي، لتأمل كبسولة مكثفة منها، النظرُ في بحر الأيام القليلة الماضية.

ليس بديهياً أن يحضر الصليب في تظاهرات الأهالي بمنطقة المنصورية احتجاجاً على مدّ وصلة التوتر العالي فوق الأرض، وخوفاً من الانعكاسات الصحية للمشروع على عائلاتهم وأولادهم. ومع ذلك، وبشكل شبه أوتوماتيكي، انتقل البحث في الموضوع إلى بكركي. موضوع كهرباء وتمديدات وأخطار صحية، يفترض أنه موضوع بلديات ووزارات، يرتقي بسرعة إلى مصاف الروحانيات، والذود عن أبناء الملّة، رغم بعض الخليط الطائفي لسكان المنصورية. وبدا منطقياً أن يجتمع البطريرك الراعي بوزيرة الطاقة، وبنائبين مسيحيين، من "الكتائب" و"التيار الوطني الحر" المتناكفين والمتنافسين على قلوب المسيحيين، لإيجاد حل.

وبعد.. يفترض ألا نعتاد تغريدات تمييزية وعنصرية وفئوية من كبار المسؤولين في الدولة اللبنانية. بل إن هؤلاء المسؤولين هم أنفسهم الذين يلاحقون مواطنين وناشطين وإعلاميين انتقدوهم في الشبكات الاجتماعية أو وسائل الإعلام، ويحرصون على توقيفهم واستدعائهم للتحقيق وتحريك دعاوى في حقهم، في انتهاك لأبسط أعراف حرية التعبير والنقد والحق في السخرية. لكن ما يحصل في النهاية أننا نغضب ولا نُفاجأ. نكتب ونحاول الرد والتصويب، من دون أن يهالنا المنطق الملتوي لما يفترض أن يسمى دولة أو مسؤولية أو صواباً.

كما يفترض ألا يضطر كثر منا إلى هدر الطاقة والأفكار في محاولة درء البشاعة الناتجة عن حساب باسم مستعار في "تويتر"، يعاير زميلة إعلامية بمرض ابنتها، لأسباب يقال عنها سياسية، والسياسة اللبنانية ليست سوى الاسم المستعار لطائفية مريضة واستعراض القوة، والقوة متأتية بدورها عن انهيار كل وازع أخلاقي يظن السذّج منا أنه الحق العام والخاص، الحق بالمطلق.

إنها البداهة اللبنانية. ظاهرة بعوارض كثيرة، تستحق الدراسة والفحص، من دون أمل كبير في العلاج.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024