ما يخبرنا الفيروس عن أنفسنا..وما يذكرنا بالايدز

أسامة فاروق

الأحد 2020/03/29
كل شخصٍ ولد وهو يحمل جنسيةً مزدوجةً، في مملكة الصحة، وفى مملكة المرض. على الرغم من أننا جميعًا نفضل استخدام جواز السفر الطيب. عاجلًا أو آجلًا، كلٌ منا مجبر ولو لمرةٍ واحدةٍ على الأقل أن يعرّف نفسه كمواطنٍ في الجانب الآخر.

سوزان سونتاغ
تقول أوليفيا لاينغ في الصفحات الأولى من كتابها "المدينة الوحيدة"* إن المدن يمكن أن تتحول إلى أماكن للعزلة والوحدة، وأننا في تلك الحالة سنكتشف أن الشعور بالوحدة لا يقتضي بالضرورة الانعزال الجسدي فقط، بل غياب أو ندرة العلاقات، القرب، والتواصل.

لكن أوليفيا بالتأكيد لم تكن تتخيّل في أسوأ كوابيسها أن تصل بنا العزلة والوحدة إلى هذا الحد. فكرت في الاستعانة بكتابها للحديث عن العزلة الإجبارية التي نعيشها، ثم وجدتُ نفسي مضطراً إلى تجاهل موضوعه الأساسي، فرغم أهميته إلا أنه يبدو بسيطا الآن أمام فكرة مذهلة كالفناء. وجدت أن الأجدر بالاستعادة من كتابها ليس فصول العزلة والوحدة، لكن فصولاً أخرى أكثر قسوة عن الألم والمرض والوداع، حقيقة ما تخبرنا به الأمراض عن أنفسنا، عن ضعفنا وهشاشتنا، أنانيتنا وفسادنا، عن المحن والتجارب السابقة التي لم نستفد منها. بالتحديد فصل "بداية نهاية العالم" الذي تحدثت فيه عن طاعون آخر ضرب العالم في وقت ما.

تنقل لاينغ عن سوزان سونتاغ قولها إن الأعوام التي تفشى فيها الإيدز كشفت حقائق خطيرة عن العالم –تمام كما يفعل كورونا الآن- العالم الذي يتم إعادة استخدام كل شيء فيه بشكل دائم، البضائع والنفايات، البلاستيك الذي يتم التخلّص منه في لندن لينتهي به الأمر على رأس سلحفاة في البحر، المعلومات، البشر، الأمراض: كل شيء يتحرك. لا أحد بإمكانه الانفصال، سلسلة متصلة كل عنصر فيها يندمج بعنصر آخر. لن تحميك الجدران ولن تعزلك، أقل حركة في أكثر البقاع النائية تولد تيارات تغرق بلاداً أخرى.

تكتب سونتاغ في نهاية كتابها "المرض كإستعارة" الذي نشر سنة 1989: "يسلط هذا الضوء على الترابط الحديث في الفضاء، والذي لا يعتبر شخصياً فقط بل اجتماعيا أيضا وتركيبياً، ويحمل تهديداً صحياً أحياناً يوصف بأنه خطر يهدد الجنس البشري، والخوف من الإيدز ومن الكوارث القادمة التي تعتبر منتجات للمجتمع المتقدم، خاصة ذلك الذي يقاوم التراجع في بيئته على مستوى العالم. الإيدز أحد النذر المشؤومة للقرية العالمية، لمستقبل قد حلّ وسيكون دائما أمامنا، ولا أحد يعرف كيف يمكن رفضه".

تربط بين المرض وبين عالم الآلات، والطريقة التي تعقّد بها العالم وأصبحت فيها الاستعارات مترابطة ومتشابكة "استخدام كلمة فيروس، في البداية، أتى لوصف كائن حي يهاجم الجسد البشري، ثم أصبح يستخدم لوصف ما يهاجم برامج الكمبيوتر". كلها صيحات تحذيرية من الحالة التي وصل إليها العالم المادي لم تلق الاهتمام الملائم، ربما كنا تمكنا من السيطرة على الخسارة والموت.

تحكي أوليفيا في كتابها قصة الفنان كلاوس نومي، الذي ترك ألمانيا موطنه الأصلي مهاجرا إلى نيويورك ليصبح نجم المدينة، ثم يلمع اسمه في العالم في الفترة بين نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، ثم يصبح أول شخص مشهور يموت بسبب الإيدز، انهار نظامه المناعي، وأصبح مظهره كأنه وحش بحسب تعبير أصدقائه، وتعرض لوحشة قاتله، وبات يخشى التعامل معه حتى أقرب الناس إليه، مواقف رأتها لاينغ طبيعية جدا، فالخوف الشديد كان نتيجة متوقعه لمرض مهلك كهذا، خاصة في السنوات الأولى لظهوره. وأصبح الجميع يتساءل وقتها: ما الطريقة التي ينتشر بها؟ ماذا عن المواصلات والنقل العام؟ هل يمكن أن أحتضن صديقي؟ هل يمكنني أن أتنفس الهواء ذاته الذي يتنفسه زميلي؟ كانت هناك العديد من الأسئلة المنطقية المطروحة، والخوف من انتقال العدوى استمر في التضخم مع مرور الوقت.

المصابون يطردون
بين سنة 1981 وسنة 1996 حين توفرت وسائل العلاج أخيرا، كان أكثر من 66 ألف شخص قد توفوا بسبب الإيدز في نيويورك فقط، وأغلبهم كانوا من الرجال، في حالات من العزلة التامة كما تقول المؤلفة "كان المصابون بالمرض يطردون من أعمالهم، ومن عائلاتهم، وكانوا يتركون في ممرات المستشفيات، هذا إن كانوا محظوظين وتم إدخالهم إلى المستشفى، كانت الممرضات يرفضن التعامل معهم، وحتى المدافن كانت ترفض قبول جثثهم بعد وفاتهم، بينما كان السياسيون ورجال الدين يحجبون عنهم الدعم والتعليم".

كان المرض في سنواته الأولى محصوراً بين ثلاث مجموعات: الرجال المثليون، القادمون من هايتي، ومدمنو المخدرات، وولد ذلك بدوره أمراضاً أخرى حيث تم تضخيم فكرة الوصمة، ليشتعل الفتيل في فكرة موجودة مسبقا ضد المثليين، وفكرة عنصرية ضد القادمين من دولة هايتي، وفكرة ازدراء مدمني المخدرات. وعندما بدأت هذه الأقليات بالظهور في المجتمع، كان من اللازم إلحاق ويلات الإيدز وعدواه بها، ووصمت هذه الأقليات بهذا المرض وكان من اللازم تجنبها والابتعاد عنها بدلا من حمايتها ومحاولة علاجها. وهي الأمراض نفسها التي تواجهنا الآن حين نتجاهل الكارثة ونتبادل التعليقات العنصرية حول مصدر المرض ومسمياته، بدلا من التكاتف للبحث عن مخرج وعلاج.

تعود المؤلفة مجدداً إلى سونتاغ لتنقل قولها بأن الوصمة أو التصورات المصاحبة للمرض تميل لأن تلحق بالظروف التي تصاحب المظهر الخارجي، خاصة الوجه مثلاً، الدال على الهوية. وإذا كان ذلك يحدث في الأمراض العادية، فإنه بالتأكيد يلتصق بالأمراض التي تنتقل بممارسة الجنس، خاصة تلك التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي المحرم، الذي يدفع بالمجتمعات للتأكيد على الفكرة الأسهل والأكثر راحة بأن المرض ليس محض صدفة أو خطأ، بل نتيجة حتمية يستحقها صاحبها بسبب فشله الأخلاقي، ولأننا الأفضل والأكثر التزاما فإننا بمنأى عن دائرة المرض القاتلة.

مشؤوم

في النص الذي ترجمه أحمد زغلول الشيطي **من كتاب سونتاغ نفسه، تتضح أكثر فكرة المرض القاتل، والتصورات المصاحبة له، تقول: "لا أحد يفكر في إخفاء الحقيقة عن مريض القلب: لا يوجد شيء مخجل في الأزمة القلبية. مرضى السرطان يُكذب عليهم، ليس لأن المرض كما يعتقد هو حكم بالإعدام ولكن لأن المرض يستشعر على أنه فاحش بالمعنى الأصلي للكلمة: مشؤوم، ملعون، قبيح المنظر. مرض القلب يعنى الضعف، المتاعب، الفشل الوظيفي. لا يوجد شيء مخزٍ، لا شيء يتعلق بالمحرمات التي أحاطت مرة واحدة المرضى المبتلين بالسل، واستمرت لتحيط بهؤلاء المصابين بالسرطان. الاستعارات المرتبطة بالسل والسرطان تنطوي على عمليات حية من رنين خاص ذي طبيعة بغيضة".

كوكي مولر
كان كلاوس نومي أول شخص مشهور يموت بالإيدز لكن بعد ذلك أصبح الأمر شائعا، كان موتا واحدا ضمن سلسلة خسائر طويلة تعددها المؤلفة "لم تكن هذه تجربة فردية؛ لقد كان مجتمعا بأكمله ذلك الذى تعرض للهجوم، وأوشك على النهاية دون أن يلحظ ذلك أحد من الخارج" حيث رحل وقتها 194476 شخصا بسبب عدوى متعلقة بالإيدز في ذلك العام في أميركا، منهم: الموسيقي والملحن آرثر رسل، الفنان كيث هارينغ، الممثلة والكاتبة كوكي مولر، الفنان الأدائي إثيل إيشلبرغر، الفنان والكاتب جوي براينارد، صانع الأفلام جاك سميث، المصور روبرت مايلثورب، الفنان فيليكس غونزاليز توريس.

منهم أيضا المصور بيتر هوجار، وصديقه ديفيد ووننارفيتش الذي تتّبع قصته عبر عدة فصول، تقول لاينغ إن فكرة الموت كانت قد أصابت بيتر بالذعر، وجعله خوفه شديد الغضب. بعد تشخيصه أصبح ديفيد يراه تقريبا كل يوم، ذهب معه إلى كل الأطباء الذين وعدوه بمعجزات العلاج، كان ديفيد معه عندما مرض وكان معه عندما مات أيضا في السادس والعشرين من نوفمبر سنة 1987 في عمر الثالثة والخمسين، بعد تسعة أشهر فقط من تعرفه على تشخيص مرضه.

وبعد أسابيع من رحيل بيتر، اكتشف ديفيد أنه مصاب بالمرض نفسه. لكنه لم يستسلم للكآبة والوحدة، بل حارب من أجل تغيير الصورة النمطية للمرض ولتغيير طريقة معاملة المرضى أيضا، استخدم في ذلك كل الوسائل المتاحة، التصوير والكتابة والرسم. وفي إبريل سنة 1989 ظهر في فيلم وثائقي اسمه "صمت =موت"، يدور حول النشاط السياسي والاجتماعي في نيويورك خلال السنوات الأولى للوباء.

المدهش في الفيلم، ليس فقط غضب ديفيد الواضح كما تقول لاينغ ولكن عمق تحليله، ففي عصر كان فيه المصابون بالإيدز يوصفون بأنهم عاجزون ومعزولون، محتضرون ووحيدون، رفض ديفيد قبول دور الضحية، وبدلا من هذا قام بشرح كيف يمكن لهذا الفيروس أن يكشف عن أنواع أخرى من المرض في عمق الأنظمة. لم يكن يريد لأحد أن يصنع له نصبا تذكاريا بعد موته، لم يكن يريد لأصدقائه حتى أن يبكوا عليه، لم يكن يريد لموته أو لموت غيره أن يكون تجريديا، لم يكن يريد لهذا الحدث أن يمر دون انتباه من العالم "في حضوره المستمر خلال السنوات التي سبقت وفاته لتدشين النصب التذكارية المختلفة للعديد من ضحايا تلك الفترة، كان يشعر بحاجة ملحه للجري في الشوارع والصراخ، ليجبر كل من يعبر الشارع على التوقف وملاحظة الدمار الحاصل" كان يريد أخذ كل جثه تسقط بسبب المرض ووضعها أمام البيت الأبيض.

أحد أهم أعماله السياسية أيضا فيلم "يوما ما هذا الطفل"، انتجه عام 1990 ويعتبر تجسيدا لقصته، قصة العالم "قوة هذا العمل الفني تأتي من الطريقة التي يتخلص بها من تراكمات الوصمة، الفوضى السامة التي صنعتها الحضارة".

لا تفكر لاينغ في الراحلين وحدهم لكن أيضا في الناجين الذين عايشوا تلك الفترات المرعبة و"حملوا داخلهم عقدا كاملا من الأسى" تقول إنها تبكي ليس حزنا وشفقة فقط لكن غضبا أيضا لأنها عاشت في عالم يسمح ويشرف على موت جماعي كهذا، وتشعر بالعجز لأنه لا أحد بإمكانه أن يوقف القطار.

*كتاب "المدينة الوحيدة .. مغامرات في فن البقاء وحيدا" تأليف أوليفيا لاينغ، وترجمة: محمد الضبع، وصدر عن دار كلمات.
** أحمد زغلول الشيطي كاتب وروائي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024