رامي صباغ
فيلم "باغزي مالون" كان باكورة دخوله إلى السرد الدرامي، وتوالت بعده تجاربه بين الأفلام الموسيقيّة مثل "الشهرة" (1980)، "الحائط - بينك فلويد" (1982)، "إيفيتا"(1996) والأفلام الدراميّة مثل "قطار منتصف الليل" (1978)، "بيردي" (1984) و"قلب الملاك" (1987). وحمل عدد من أفلامه، ثيمات ليبيراليّة محافظة، كالسعي نحو النجاح والشهرة والإنجازات الفرديّة.
في "باغزي مالون" تظهر ميول باركر المحافظة، داخل التشكيل الجندري للفيلم في السبعينات، حيث تُكسر الصور النمطيّة للأدوار في أفلام غنائيّة مثل "روكي هارور بيكتشر شو"، ويحافظ باركر عليها. فالمسدسات والسيارات والملاكمة هي للشبّان الصغار، وللصغيرات أدوار ثانوية للغناء والحب. كما يُعلن عن تطلّعات ليبيراليّة رأسماليّة في مشهد يجيّش "باغزي" فيه زمرة من العاطلين عن العمل بغناء خطابي ضدّ التكاسل. لكنّ هذه الذيول السياسية تزول أمام الموسيقى الرائعة التي تحمل الفيلم، داخل حلمٍ ناعمٍ مرصّع بالجاز والكاباريه الغنائي من تأليف بول ويليامز الذي سبق أن ألّف الموسيقى-المعجزة لفيلم "طيف الفردوس" لبراين دي بالما (1974).
من الصعب عدم التعلّق بالجماليّة الموسيقيّة للفيلم، خاصة في المشاهد التي تحمل لونًا ميلانكوليّاً، كالمشهد الغنائي المنفرد للشاب الصغير "فيزي" - عامل التنظيف في صالة "فات سام غراند سلام"، والذي يحاول باستمرار الحصول على محاولة أداء من صاحب الحانة وزعيم إحدى العصابات "سام السمين"، ودائمًا يؤجِّل "سام" لقاءهما بقوله "غدًا يا صديقي، غدًا". فيأخذ مرّةً حذاءه ويغني "غدًا"، ويرقص نقرًا بحذائه كأنّه فريد أستير صغير وقد غمره الحزن.
الفيلم مبني على مبدأ اللعبة المفتوحة مع المشاهد. أطفال متنكّرون بلباس الكبار، يلعبون أدوارًا بطوليّة كلاسيكيّة هوليووديّة، ويرمون بعضهم بعضاً بالكريما. يدخل "باغزي" إلى حانة مخبأة خلف مكتبة، ليغرق الفيلم في قصّة تتداخل فيها مشاهد فكاهيّة مع الغنائيّة والرومانسيّة ومشاهد العراك بالأيدي والكريما ومطاردات السيارات التي عُدّلت لتصبح مشابهة للدراجات الهوائيّة.
يُكشف عن اللعبة منذ لقطات الفيلم الأولى، من خلال الشريط الصوتي، حين يبدأ "سام السمين"، إحدى الشخصيات الرئيسيّة، بسرد الأحداث المشاهدة وبتقديم الشخصية المركزيّة "باغزي مالون" كبطل للقصة المرويّة التي يسمّيها "قصّتنا"، متوجهًا إلى الجمهور بتقارب بين شخصيته المتخيّلة والمشاهدين الصغار يذكّر بالعرض المسرحي. في حانة "سام"، تقوم عروض غنائيّة يؤدّيها صبيان وبنات للجمهور في الحانة السريّة، كما للمتفرّج على الفيلم، بتفاعل طفيف مع الكاميرا. يرتسم اللعب مع المشاهد وكشف طبيعة المُشاهدة الفيلميّة حين يتحدّث "سام" بالإيطاليّة ويطلب من محدّثه أن يقرأ الترجمة عن الشاشة. هذا الكشف، كما التشكيل الغنائي، يشطر انسيابيّة السرد الدرامي، في محاولة لخلق صلة تواصل مع المشاهد الصغير للفيلم هي أكثر أهميّة من ترابط السرد. تقنيّة سرديّة تقرِّب الفيلم من مبادئ "سينما الجذب" للمنظِّر الأميركي توم غانينغ، والتي تقترح أن أفلام السينما الأولى وبعض الأفلام الغنائيّة أكثر تفاعليّة مع الجمهور من سينما السرد الدرامي الكلاسيكي. وفي مشهد الإعداد للعراك الأخير، تلبس الشخصيات البطوليّة ثيابًا تنكّرية كمرتزقة لتزيد من اللعب مع مفهوم التنكّر واللبس.
كلّ هذا يخلق حالة استثنائيّة في فيلم "باغزي مالون". ففي معظم أفلام الأطفال الأخرى، يكون العالم السينمائي إمّا عالمًا سحريًّا مثل أفلام الفانتازيا والسينما المتحركة، أو عالماً واقعياً تدور فيه قصّة عن طفل أو أطفال ينجذب نحوه الأطفال بسبب الشخصيات الرئيسيّة التي عادةً ما تكون صغيرة في السن، أو عالمًا متخيّلًا في داخله حبكة درامية يعيش فيها الأطفال تجربة الطفولة نفسها حتّى يبدو كأنّ هذه السينما تحاور توقعات الكبار من السينما أكثر منها مخيلة الأطفال. وفي الكثير من الأحيان، يتعلّم الصغار كيفيّة التمتّع بالفيلم من خلال التماهي مع تمتّع كبارهم فيه. لكن، في "باغزي مالون"، وكما يطمح الأطفال في الحياة إلى تقليد تصرّفات ولباس الكبار، يؤدي الأطفال في الفيلم أدوار الكبار، ما يسمح للمتفرجين الصغار بالتماهي مع شخصيات الفيلم ضمن لعبة هي السينما نفسها. المفارقة هي في تماهي المتفرّج الصغير مع أطفال يعيشون تجربة الطفولة. بل يردّون على تطلعات الأهل والمؤسسات التربوية، لجهة الإرشاد الأخلاقي، فيتماخى المتفرجون الصغار مع أطفال "باغزي مالون" الذين يؤدون أدوار الكبار وعالمهم، لمحاكاة تصوّرهم لهذا والهزل منه بغاية المرح.
في تحويله السينما نفسها، والمُشاهدة الفيلميّة، إلى لعبة تشارك في صنعها مخيلة المشاهد الصغير وتطلعاته، صنع آلان باركر، ولو عن غير قصد، عملاً ثورياً. اذ أعطى الأطفال مساحة للتصرّف كالكبار واللهو مع الطبيعة الفيلميّة، في تمثيل أدوار بطوليّة هوليووديّة تتخطّى الخير والشر، كما الحياة والموت، من خلال المرح، وهو انقلاب على الحياة والسينما من أجل اللهو الطفولي. لا شيء أكثر ثوريّة من ذلك. نحن بحاجة إلى "باغزي مالون" جديد يحمل كل هذا، ناسفاً آلان باركر المحافظ. قد أكون على خطأ في تأويلاتي للفيلم وفي نقدي لسينما ميازاكي ولفيلم "صوت الموسيقى"، لكنّ "باغزي مالون" دائمًا على حقّ.