"لا تخبر الحصان" لممدوح عزام

المدن - ثقافة

الأحد 2019/04/14
تصدر قريباً عن داريّ "سرد" و"ممدوح عدوان"، رواية "لا تخبر الحصان" للروائي السوري ممدوح عزام، تصميم الغلاف لتمام عزام، هناك مقطع منها، ننشره بالاتفاق مع الناشر.
صباح اليوم التالي اختفى سالم النجار. استيقظت ولم أجده في البيت. كان واصل يستمع إلى الراديو وقد رفع صوته حتى السماء، بينما كانت أمي تخبز، وكاملة تحضر لها الحطب كي تشعل النار تحت الصاج. وعندما رأيت الحصان مربوطاً في مكانه عرفت أن أبي لم يعد هنا. 
وفي غيابه سمعت أمي تسألني، لأول مرّة، ما إن كنت قد أطعمت الحصان، قلت لها إنني لا أنسى هذا أبداً، فغمغمت بما لا أدري من الكلمات. وبنظرةٍ مني إلى وجهها، علمت أنها كانت تبارك وجودي إلى جانبه في غياب أبي. لماذا؟ لا يعرف الأبناء أخلاق الآباء أبداً، فلا تعرف لماذا يتشاجران ومتى يتصالحان، في كثيرٍ من تلك الأيام التي كانت تشهد شجار الليل بينهما، كنت أراهما منسجمين في النهار يتحدثان عن موسم القمح أو الشعير كأن لا همّ لهما غير تلك الحبوب. كان صلحهما يسعدني في النهار، حتى أنني بتُّ أكره الليل. لكنّي، في آخر الأمر، قلت يمكن للأبوين أن يفعلا ما يريدان. ولم أسأل أمي لماذا استفسرت عن طعام الحصان.

قلت سأسأله ما إن كان يعرف أين ذهب أبي، فراح يهزّ رأسه، مثلما كان يفعل أبي، هزّاتٍ عظيمة، وهو يفكّر، ولكنّه لم يقل لي أيّ شيء. كانت دمعتان لامعتان تستقرّان في عينيه، وهما اللتان جعلتاني أخاف مما سيحدث في بيتنا في الأيام القادمة. لكننا خرجنا في اليوم التالي إلى سهل التل الأحمر. كانت السماء صافية كالبلور، ولم يكن في السهل أحدٌ غير بضعة حميرٍ متشرّدة ترعى جذور القمح المتبقّية في الحقول بعد الحصاد، بينما أخذت الجداجد تزعق مذعورةً من صهيل الحصان. لعبنا معاً لعبة المشي الرهوان، سار كلُّ واحدٍ منّا على رجلٍ واحدة. قفزنا بين خطَّين رسمتهما في الرمل الأحمر. حاول أن يعلّمني الصهيل، وحاولت أن أعلّمه الضحك. اعتليت صهوته وجرينا من أول السهل إلى آخره، ومن آخره إلى أوله. قلت له إنني أحبّه، وإنه سوف يظلّ صديقي طوال عمرنا. وهزّ رأسه وغمر وجهي بشعر عرفه الأشقر الطويل. صهلنا وضحكنا طويلاً.

 
لكنّي في كلّ ليلةٍ كنت أسمع نحيباً في الغرفة الزرقاء، وعرفت أن أمي سليمة كانت تنشد عتابا حزينة ترثي بها نفسها، وتتحسّر على لحظاتٍ، وعلى أمنياتٍ لم تتحقّق رغم أنها انتظرتها طويلاً. كانت كاملة نائمة، وكان واصل مستيقظاً ينظر إليّ دون أن يتكلم. لا أشكّ أن هذا الولد يعرف كل شيء، ويسمع كل شيء، وقد كان الشاهد الوحيد الذي ظلَّ هنا في الدار دون أن يغادرها إلى أي مكان. لكن نحيب أمي توقف بعد أيام. وسمعتها تصرخ وتقاتل فاضل الكبير الذي جاء من المدينة. لا أعرف السبب، ولا أجرؤ على الدخول إلى المكان الذي تكون فيه أمي غاضبة. لكني استطعت أن أتلصّص من شقٍّ في الباب، كان فاضل يجلس متربّعاً مستسلماً على الأرض، يطأطئ رأسه، ولا ينظر نحو سليمة. لم أرَ مثل هذا المشهد منذ سنوات، فأخي فاضل كان يظهر مثل الذئب حين تطلب منه أمي شيئاً ما لا يريده. يقف ويرفض ويتحدّى بنظراته: كانت له عينا ذئب (رأيت صورة العينين حين تصفّحت كتاباً عن الأدغال في مكتبة مدرستنا). أدركت أخيراً أن أمي كانت توبّخه لأنه استضاف أنوار عمران، وتقول إنه سوف يجلب لنا الفضيحة. وفهمت أن أحداً ما قد أخبر أمي بما يحدث هناك، لأن فاضل قال لها إن أنوار زارته فقط كي يأخذها إلى الطبيب، وعندئذٍ قالت له: «كذّاب!». فلم يردّ. انتابتني مشاعر حزنٍ على فاضل، شعرت بالشفقة نحوه، وقد رأيت أن رجلاً مثل العمود، يوبَّخ من أمٍّ صغيرة طيّبة مثل سليمة حطاب. زعلت لأنه يكذب، وزعلت لأنها قالت له إنه يكذب. لماذا يا فاضل؟ فجأةً وجدته يقول لأمي إنه يعرف من الذي وشى به لديها، وإنه لن يتساهل مع نوفل هذه المرة، لا لأنه ينقل لها أخباراً عنه، بل لأنه يتجسّس عليه. فقالت أمي إن نوفل يتقدّم الآن لامتحان البكالوريا، وليس هو الذي أخبرها. أصدِّق أمي، إذ كان شخص آخر قد أخبر أمي أن أنوار كانت تأتي إلى غرفة فاضل في أيام الحرب. وإنها لن تخبره أبداً باسم ذلك الشخص. 


 أخيراً قال فاضل إنه يحب أنوار، وأمي نظرت إليه بعينين مذعورتين، وقلب حانق. لا أعرف ماذا تخيّلت، ولكني أعرف أن حنقها زاد، لأنها كانت قد اعتقدت في الأشهر الماضية أنها تمكّنت من فصم العلاقة بين ابنها وبنت داوود عمران، وأنها ارتاحت من قصة الكراهية المزمنة بين أبي وداوود ابن عمّته، وسمعتها تطلب من الله، حين تزوّجت أنوار ورحلت برفقة زوجها العسكري الذي سوف يمضي حياته متنقلاً بين المناطق وفق متطلبات الجيش، أن يسعدها ويبعدها. أما اليوم فهي تطلب من الله نفسه أن يغضب عليها، وأن يحرم فاضل من الرغيف إذا استمرّ في علاقته بها. هذا هو الدعاء الرهيب الذي يمكن أن يبثّ الرعب في الكائنات كلّها: أتخيّل مشهد فاضل جائعاً ناحلاً ليس في جسده غير العظام وهو يعدو خلف رغيف خبز لا يهدأ في أي مكان من هذه الأرض. أيّ لهفة! أيّ عوز! أيّ لعنة ربانية يمكن أن تحلَّ عليه إذاً! تمنّيت أن أستطيع إقناع فاضل بالعدول عن حبِّ أنوار اللعينة، تلك البنت السمراء التي لا يمكن لرجلٍ أن يصمد أمام عينيها. فلها نظرة لبؤة صيّادة، قوّتها كلّها مستقرّة كحلقة من النار المشتعلة في عينيها السوداوين. كان زوج أنوار قد اختفى في الحرب ولم يعُد، بحسب ما قالت لي محسنة النجار ابنة عمي داوود، قالت لي أيضاً إن أختها سوف تنتظر صابر البطل في بيتها، ولن تعود إلى دير القرن كي لا تحكي النساء إنها صارت أرملة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024