"الرائي- حكاية دامو السومري" لضياء الجبيلي

المدن - ثقافة

الإثنين 2020/06/01
(*) كثيراً ما كنت أجلس وحيداً على رمال الشاطئ بمواجهة البحر في سماهيج أو أرادوس أو ماشماهي كما يسميها الفرس، وهي جزيرة ساحرة تمازجت فيها الأعراق، تقع في أقصى شمال دلمون، مركز صيد اللؤلؤ وبيعه وتثمينه، أراقب متأملاً مشهد الغروب من هناك، كما لو أنني أراه للمرة الأولى، فإنّ له في هذه البقعة الخالدة في ضمير السومريين خصوصية قد لا يحسها إلا من خبر شواطئ العالم ورأى المنظر نفسه مئات المرات، قبل أن يتيقن في النهاية أن لا غروب يوازي أو يشبه الغروب في سماهيج، حيث يهب الهواء المشبّع بالملح ماراً بالنخيل وأشجار اللوز، لينتج في النهاية هواء عليلاً خالياً من الوخامة في أيام الصيف.

كنت أرى كَلكَامش وهو يخرج من تحت المياه، لكن ليس على نحو ما صورته الملاحم بهيئته الإلوهية. ينفض عن رأسه الماء ويرفع قبضته عالياً، كما لو أنه خرج لتوّه منتصراً من حلبة للمصارعة. يخوض في مياه الشاطئ حتى وصوله إلى اليابسة، عارياً، منهكاً، ويلتقط أنفاسه مثل ثور من ثيران أوروك الوحشية. يجعل جسده يتهاوى مستلقياً على ظهره فوق الرمال الناعمة الدافئة، بينما تبقى يده مرفوعة. اقترب منه ببطء وحذر، كما لو أني أخشى إيقاظه. أراه يتحرك، يثني واحدة من ركبتيه وينظر إليّ من فوق جبينه بشكل عكسي.

"ما هذا الذي بيدك يا كَلكَامش؟" أسأله: "أهي عشبة الخلود؟ ألا تعطني منها شيئاً يا كَلكَامش؟"
ينهض كَلكَامش ويقف بإزائي. إنه أطول مني ويبدو ضخماً، لكنه ليس معضّلاً كما يظهر في الرسوم القديمة. يضحك فجأة، يقهقه بصوت عالٍ، قائلاً:
"لكنها ليست سوى هذه...!"
يفتح يده ويناولني نجمة بحر، يتراجع بعدها إلى الوراء واضعاً يده على بطنه، يضحك بشكل هيستيري، ولا أعرف إن كان يسخر مني أم من نفسه. يسقط نفسه أرضاً ويستمر بالضحك وهو يقول:
"أي خلود هذا الذي تبحث عنه أيها المغفل؟ نحن بائسون.. بائسوووون!"
يبكي بحرقة، كأنه قضى عمره بالبحث عن تلك النبتة وفي النهاية يُكافأ بنجمة بحر تافهة.
يكف عن البكاء بعد دقائق وينهض. يقترب مني كثيراً إلى درجة أني أشمّ رائحة الموت المنبعثة من ثيابه. أمعن النظر إليه واكتشف أنه لم يكن كَلكَامش، بل دودو.. أخي الغريق دودو.

"خذ.. هذه لشقيقتنا نازي.." قال وهو يضم أصابع يديّ على نجمة البحر: "وسأحضر غداً أخرى لناناي"
نزل بعدها إلى البحر. كان مثل الشمس وهي تغرب مختفية. لكنها كانت شمساً مطفأة، ميتة.
وهكذا، غاب دودو، بينما استيقظت أنا من الحلم على صوت أحدهم وهو يزعق فوق رأسي مردداً شعار الخوارج:
"الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر.. ألا لا حكم إلا لله!"
*المحرق حالياً، البحرين.

(*)مقطع من رواية جديدة للكاتب العراقي ضياء الجبيلي، وهو كان أصدر اخيراً رواية "ساق الفرس"، ويستعد لكتابة رواية عن مهدي حيدر صاحب رواية "عالم صدام حسين".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024