أحمد الشيطي: روايتي الأولى لم أملك ثمن نسخة منها(1-2)

أحمد شوقي علي

الأربعاء 2018/12/12
يُعرَّف الروائي المصري أحمد زغلول الشيطي، غير منفصل عن روايته الأولى "ورود سامة لصقر"، رغم أنها ليست كتابه الوحيد.
عرفتُه خلال فترة عودته، مرة أخرى، إلى الحياة الأدبية، بعد غيبة استمرت 13 عامًا. لم يكن يشبه –ولايزال- أياً من بَطَليه "صقر" أو "يحيى". خجول وأقل اندفاعًا من صقر، وإن جاء من جذره الطبقي ذاته، لا يؤمن بأفكار يحيى السياسية وإن بدا مثله حالمًا. كان يسير، وثمة سؤال يتبعه: "مش ده الشيطي بتاع ورود سامة"، محاطًا بصخب يشبه ازدحام الحياة حول عائد من المجهول؛ صخب يستمد ذاته من النوستالجيا، فيثير شعورًا سلبيًا، بقدر ما يثير من شغف للتعرف على أسبابه.

في العام 1990، صدر عدد سبتمبر من مجلة "أدب ونقد" ذات التوجه اليساري، يبشر بموهبة أدبية فارقة، لكاتب شاب من دمياط، وبين دفتيها النص الكامل لروايته الأولى، ومرفق معه ملف نقدي شارك فيه عدد من النقاد البارزين؛ سيد البحراوي وصبري حافظ والسوري خليل الخليل وفريدة النقاش رئيسة تحرير المجلة ذاتها. تبعه احتفاء أوسع في الوسط الأدبي، ومتابعات نقدية أكثر عددًا، تثمن قيمة النص وتعتبره النقلة الحقيقة للرواية المصرية لما بعد نجيب محفوظ، بل وربما، تضعه على مسافة قريبة من أعمال صاحب "الحرافيش"، على نحو ما كتبه سامي فريد، في "الأهرام"، من أنه ينتظر أن يحصد الشيطي نوبل الثانية لمصر في الآداب. لكن صاحب "ورود سامة لصقر"، خيب أماله، ولم ينشر أي روايات أخرى خلال 28 عامًا تالية على نشر روايته الأولى، بل اختفى تمامًا من الساحة الأدبية.

وفي العام 2008، نشرت باحثة دكتوراه بجامعة القاهرة، دراسة تقارن بين الشيطي وجيمس جويس، تحت عنوان "التوقيع وصحة التوقيع، قراءة لجيمس جويس وأحمد زغلول الشيطي"، وكأنها الخطوة التي استدعت الكاتب الدمياطي من عزلته "المجهولة". فعاد إلى الحياة، ومعه مجموعة قصصية جديدة بعنوان "ضوء شفاف ينتشر بخفة"، نشرتها دار "ميريت" العام 2009، ليترك من خلالها أثرًا طيبًا، سرعان ما انضوى تحت وطأة صدور طبعة جديدة من الرواية الأيقونة في العام 2010 عن الدار نفسها.

تختلف شروط تلقي العمل الفني باختلاف الظرف التاريخي المصاحب لصدوره، ورواية قُدمت على أنها ابنة "لحظة حرجة في التاريخ" لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المقولات الكبرى –ذلك الوصف الذي لم يعد له أثر ذو معنى في متلقي ما بعد الألفية الجديدة- ربما لا تترك الانطباع ذاته لدى قارئ يتناولها بعد عشرين عامًا من تفسخ ذلك الاتحاد. وقد لا أتذكر وصفًا دقيقًا عن أثر الرواية فيَّ عندما قرأتها للمرة الأولى قبل ثماني سنوات، لكني وأثناء إعادة قراءتها، خلال التحضير لهذا اللقاء مع أحمد زغلول الشيطي، كنت غير قادر على تمييز جملتي السردية التي كتبت بها روايتي الأولى -التي صدرت منذ ثلاث سنوات- من جملة الشيطي التي كتب بها روايته المنجزة في العام 1986، وكأنها أسرتني فلم أستطع إيجاد نبرة شخصياتي إلا عبرها.

كان مُقدّراً لذلك الحوار أن يتم في ظرف آخر، كأن يأتي مواكبًا لصدور رواية الشيطي الثانية، التي انتهى منها مؤخرًا ودفعها للنشر، بعد انقطاع نحو 7 سنوات، منذ آخر كتاب أصدره في العام 2011 عن ثورة يناير (للشيطي 5 كتب فقط أصدرها بين العامين 1990 و2011)*. لكن استدعاءً آخر لـ"ورود سامة لصقر"، أعادها إلى المقدمة من جديد، بعدما حصد فيلم "ورد مسموم" للمخرج أحمد فوزي صالح، والمأخوذ عن قصتها، ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ولاقى استقبالًا جماهيريًا لافتًا لدى عرضه في السينما خلال الأيام القليلة الماضية.

وفي الجزء الأول من هذا الحوار، الذي تنشره "المدن" في حلقتين، ضمن ملف "الرواية العربية.. إلى أين؟"، حاولنا أن نفهم ماذا جرى بعد "ورود سامة لصقر"، وكيف اختفى كاتبها من الساحة الأدبية بعد ما حققه من نجاح.

- إن عدت إلى قراءة "ورود سامة لصقر"، كيف ستراها بعد مرور تلك السنوات كلها؟

لا أطيق قراءة أعمالي، بل أنظر أحياناً في بعض الصفحات وأشعر بكثير من الخجل. ويبدو أن ذلك الشعور لا يتعلق بالقيمة، لكن نفوري ناتج عن أن ذلك النص ربما لم يعد يعبّر عني، أو لعلّي لو كتبته الآن ربما أكتبه بشكل آخر.

علاقتي إشكالية بما أكتب، لدرجة أنني أثناء كتابتي لروايتي الثانية، كلما قلت إنها انتهت، عدتُ لاستكمالها، أو لإادة كتابتها مرة أخرى. أظن أن لحظة اكتمال العمل، لحظة اعتباطية، هي لحظة تضطر فيها أن تسلم النص للناشر حتى تتخلص منه، لكن لا عمل ينتهي أبدًا، طالما ما زلت على قيد الحياة، فلن ينتهي، وكلمة النهاية تضعها فقط للتخلص من العمل لأنه ربما يحجب عملاً آخر غيره، وهذا ما حصل مع روايتي الأخيرة "صخرة هليوبوليس"، والتي كان لها عنوان آخر غير ذلك، وأعتقد أنها لو مكثت معي أكثر من ذلك لكنت عدلتها وغيّرتها مرة أخرى.

أن تقول إن "ورود سامة لصقر" لم تعد تعبّر عنك، وأنك تضطر إلى كتابة النهاية لأن العمل يحجب غيره، يوحي بالضرورة أن لديك أعمالاً أخرى غيرها!

"تعبّر عني" جملة ستبدو غير دقيقة على إطلاقها.. تعبّر عني على أي مستوى؟ ذهني؟ شعوري؟

أعتقد أن الكتابة في "ورود سامة لصقر" كانت تعبّر عن كافة مستويات الوجود في حالة أزمة، في حالة احتقان شديد جدًا، وهي حالة نادرة في حياة الإنسان يصعب تكرارها، من الصعب تكرار شروط عملية إبداعية مرة أخرى، تلك لحظة خاصة جداً تلاقت مع وضع عام فأنتجت تلك الحالة، هذه الحالة أنشأت بداخلي، بناءً معيناً، علاقات معينة بيني وبين اللغة، أحاسيس جمالية معينة، شعوراً بأزمة معينة، أنتجت الشكل الذي ظهر في ورق "ورود سامة لصقر".

لم أتجاوز هذا العمل لأن هذه الأبنية التي كشفت عن ذاتها، من خلال علاقات إشكالية داخل النص، كانت موجودة داخلي، وكان لا بد لها أن تتغير هي الأخرى حتى أستطيع أن أخوض المغامرة مرة ثانية، وفعلاً أنا ضحية نص كبير بمعنى ما قدمه من حلول جديدة. بقيت داخلي هذه الأبنية، وصرت غير قادر لوقت كبير على خوض مغامرة الكتابة مرة ثانية، لأني لو فعلت، سأكرر نفسي. أذكر كلمة، أعتقد أن بريخت، أو ربما فالتر بنجامين، قالها، إن البناء عندما يصل إلى درجة من الاكتمال داخل الكاتب يكون قد انتهى، وبالتالي فإنه يرى أن الكاتب ينبغي أن يتعلم اللغة من جديد. ذلك أحياناً يأخذ عند بعض الكتّاب صورة محاولة تلمس عالم غائم، محاولة تلمس كتابة خطية لإعادة فهم العالم بشكل مغاير. في حالتي، أخذت شكل كتابة نصوص أطلقت عليها وقتها اسم "أساطير موجزة"، حاولت فيها الكتابة عن أشياء عرفتها خلال مرحلة الطفولة في دمياط.

لكنها نصوص ارتبطت بعالم "صقر" أيضًا.. وأعتقد أن مَن تابعها وقت نشرها في جريدة "الدستور" في 2010، سيلحظ تلك الصلة بينها وبين "ورود سامة".

نعم مرتبطة بعالمه، لكن ببناء مختلف، وبمحاولة أخرى للتعرف على ذلك العالم، بهدوء وبلا غضب، أخذت طابعًا استفهاميًا، سؤالًا مفاده: "ماذا حدث بالضبط"؟ من دون إدانة لأحد أو مشاعر انتحارية، ومن دون غناء أيضًا. محاولة للاقتراب من حقيقة ما حصل، لم يكن بناؤها معقّداً مثل رواية "صقر"، كان بناؤها بسيطًا، واقعيًا.

في الرواية الجديدة، التي انتهيت من كتابتها، الذات مفككة وموزعة على أكثر من شخص، البطل الرئيس ليس له اسم واحد، له أسماء متعددة، وليس له انتماء طبقي واحد، له انتماءات متعددة، ولا ينتمي لجغرافيا واحدة، بل إلى جغرافيات متعددة، وربما ما ستوحّده "صخرة هليوبوليس"، وهي عنوان الرواية، ذلك الحجر الذي ينصب وعيه عليه في لحظة مواجهة حادة.

رواية صقر ربما تعبّر عن "الولد" الذي كتبها، ولد عانى اليتم مبكرًا، وخرج للعمل وهو طفل، لأن أسرته لا بد أن تعيش، ثم  قرر أن يهج إلى القاهرة، رغم أنه لا يملك مليمًا في جيبه وليس لديه من ينتظره هناك.

لماذا لا نبدأ الحكاية من أوّلها، ألاحظ أن لديك تحفظاً دائماً في ما يخص الحديث عن تجربتك الشخصية.

ثمة مساحات أتحفظ فيها، لكنه ليس تحفظًا أخلاقيًا، هو تحفظ من يدخر أشياءه لكي يستخدمها في سياق إبداعي، لأني عندما أحكي الحكايات يستحيل علىّ أن أمسّها مرة أخرى، إلا بعد عمليات تزييف متعمد، كي أخلّصها من كونها لفظت من قبل. بهذا المعنى أكون حريصًا ألا أكشف عنها بصورة كاملة، لكن المعروف أني أنتمي لطبقة فقيرة، عائلتي من الحرفيين، وكنت الوحيد أنا وأخواتي البنات الذين واصلوا طريق التعليم (نحن 4 صبيان وبنتان)، لذلك اعتُبرتُ مثلهن، بنتًا، وأوقعني ذلك في العديد من المشاكل، تعلّمتُ بالصدفة أصلًا.

كتبتُ الرواية في بيتنا بدمياط، وبعد نشرها واجهتُ ظاهرة غريبة. عندما أتأملها الآن، أجد أن "صقر" كان يجب أن يموت تسعمئة مرة، لا مرة واحدة، أن تجد بعض الناس وأنت ما زلت صغيرًا وتملك الموهبة، وكأن لديهم رغبة في عقابك لأنك موهوب. كان هناك أديب في دمياط –طبعاً أنا سامحت الكل- عندما تأتي سيرة الرواية، يتهكم عليها ويقول "الجنازة حارة والميت كلب"، في إشارة إلى أن صقر بطل حقير، وكأني كان ينبغي وقتها أن أكتب عن بطل ثوري، من أبطال الواقعية الاشتراكية حتى أنال احترامه.

- ذلك الأديب كان يكتب الرواية؟

لا. لكنه كان شخصاً مؤثرًا جدًا في محيطي الجغرافي وقتها.

ألاحظ أن هناك ميلاً عند أعداد من المتوسطين لتدمير الموهبة الجديدة، كونها تعيد ترتيب المكانات من جديد وتهدد المواقع القديمة، وهذه جريمة، وهناك أيضًا ميل مضاد، هناك أطراف أخرى تستشعر الموهبة وتعمل على احتضانها ورعايتها. لكن الأمر يخضع للصدف وحدها، وحظ الواحد، مَن سيقابل منهما.

- هل ذلك ما دفعك لأن تحمل روايتك وتذهب بها إلى القاهرة؟

لم أذهب بالرواية إلى القاهرة. كان هناك مؤتمر أدبيّ في دمياط، وكان سيد البحراوي، أحد المشاركين فيه، لم يكن بيننا سابقة تعارف، ولا أعرف كيف أخذت روايتي المكتوبة على الآلة الكاتبة، وذهبت لأقول له: "خذ هذه الرواية، واعرف أنها ستترك أثرًا في الأدب المصري يساوي الأثر الذي صنعته رواية "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم". ثم فوجئت بعدها بمدة وجيزة أن البحراوي قد أعد دراسة حول الرواية ونشرها في مجلة "الهلال" المصرية، قبل أن تصدر الرواية في كتاب! ومن يده خرجت الرواية لكثيرين، وفوجئت أن إبراهيم أصلان قرأها، وقال إن هذا أفضل عمل أدبي قرأه ذلك العام (1989) مع رواية "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز. ومن هنا، وبسبب تلك الواقعة، جئت إلى القاهرة، لكنها لم تكن الزيارة الأولى. فلقد تخرجتُ في كلية الحقوق بجامعة القاهرة.

- وكيف كان شكل حياتك في دمياط عندما انتهيت من الدراسة، وعدت إليها برواية؟

لم يمض وقت طويل حتى التحقت بالتجنيد الإلزامي، لمدة سنة وثلاثة أشهر، وعندما انتهت خدمتي، عدتُ إلى دمياط بلا مهنة، لا أعرف كيف سأعيش، والتدريب لدى المحامين لم يكن بتلك السهولة في ذلك الوقت. ولأني تخرجت بتقدير عال، رُشحتُ للنيابة العامة، وذهبت لأقابل النائب العام، وشحذت كرافات (ربطة عنق) من على بابه من زميل سبقني إلى لقائه، ثم بعد ذلك اللقاء، أُرسلت إلى مباحث أمن الدولة ليسألوني عن عائلتي، واكتشف الذي يسألني أن أقربائي، واحد يصنع أقفاص الفاكهة، وآخر يعمل "مدهباتي" (حرفي طلاء الأثاث بالورق الذهبي)، وواحدة تعمل على طبلية أسمنت مسلح.. إلخ، ولا يوجد شخص واحد منهم تجاوز طبقة العمال اليدويين، إلا أني وبالصدفة وصلت إلى هذه الدرجة من التعليم الجامعي، ومن ثم أجلس أمام سيادة العقيد لأدلي له بعمل أقاربي. لعل الرجل أشفق عليّ. لقد قرأتُ المستقبل وأنا في الناحية الأخرى من مكتبه، وأمامي فنجان القهوة الذي أمر به لي، كانت هذه جريمتي، طبعاً رُفضت ولم أنجح في الالتحاق بالنيابة. وكنت، أثناء انتظار النتيجة، أمارس عملي في ورش الأويما (النقش على الأثاث) كما أنا، لكني كنت وكيل نيابة أعمل "أويمجي"، وذلك جعل العمّال من حولي يعاملونني كوكيل نيابة فعلي، وليس مستقبليّ حتى، وسلوكهم تغير معي تماماً، حتى الذين كانوا يعاملونني بقسوة، حسّنوا علاقتهم بي. وقد حاول أحد أصحاب ورش الحدادة الكبار أن يقدم لي عروسًا، وهذا كله سيؤول إلى لا شيء.

لذلك رحلت للقاهرة؟

أرجو أن نعلق هذا السؤال قليلًا. هذه الحكاية ربما لا أستطيع سردها الآن..."شوية كدة".

شوية كده. لآخر الحوار تقصد؟

لا. ليس في حوارنا، لكن ربما في ما بعد. لأن هذا موضوع ربما أستخدمه في عمل روائي.

- روايتك صدرت في "أدب ونقد" ولم يكن في جيبك ثمن شرائها. هذه المعلومة أخبرتني بها من قبل، ما يعني أنه من المتاح أن تحكي عن تلك الفترة.

في ذلك الوقت، ردود الأفعال المحيطة بي، كانت متنوعة، أخوتي على سبيل المثال ظنوا أن نشر الرواية بهذه الطريقة، حل لأزمتي المالية، وأن الأدب باب للرزق يعينني على الحياة. كانوا يسألونني "تجيب كام دي"؟ وكنت أقول لهم. المفروض أن أدفع... مبيدوش حاجة خالص يعني. طبعاً كانوا يتعجبون. كيف لذلك أن يحدث، وأنا لا أستطيع إعالة نفسي من الكتابة.

كنت أذهب لأتفرج على المكتوب عني عند بائع الجرائد أبو حجازي، في أهم شارع رئيسي في دمياط، شارع الجلاء، لأني لا أملك ثمن الصحف، أو أجد شخصاً اشترى جريدة "الأهرام المسائي"، فيخبرني أن سامي فريد كتب عني (كان ذلك في الأعداد الأولى للأهرام المسائي، ربما العدد الثالث أو الرابع) فيصيبني ذلك بصدمة، لأن سامي فريد قال في ذلك العدد، إنه يتوقع أن ذلك الشاب الذي كتب "ورود سامة لصقر" سيحصل على نوبل الثانية لمصر. كنت في مقر "حزب التجمع" بدمياط، وكدت أفقد الوعي من ذلك التصريح، فأحضر لي المحيطون بي كوب به ماء بسكّر، لكي أستعيد وعيي، طبعاً دلوقتي توقعاتي قلّت كثيرًا جدًا.. ده أنا معملتش إلا رواية واحدة يعني. دي محصلتش!

كم من كاتب عاش بفضل رواية واحدة..

* طبعاً. لكني أيضًا تجاوزت أوهام الجوائز، بعد ذلك، وبالصدفة البحتة، لأن الحياة تمنح المأساة وتمنح كذلك الانفراج؛ "واحد يجي يقوللي طب أنت محام، طب تعالى اعملي حاجة كده صغيرة، أقوم أعملها، يقوم قايلي طب بص أنا باشتغل مستخلص في الجمارك، وعندي مجموعة ناس بس دول من القاهرة ومن جميع أنحاء مصر، بخلص لهم شغلهم في الجمارك، وبيحصل لهم قضية كدة معينة، يعني تيجي تعملها لهم". طبعا بدأت أعمل كمحام لمجموعة من أكبر المستوردين في مصر، وهذا طبعاً حسّن حياتي المادية جدًا، ثم في لحظة من معينة قررت التوقف تماماً عن المحاماة بعدما شعرت بالاستقرار نسبياً، وهكذا أنا أمامك الآن.

- وهكذا انتهت القصة؟

أكملها أنت فقد منحتك الخط العام.

متى تركت الأدب؟ وكم سنة استغرقت عزلتك الاختيارية؟

من 1994 إلى 2007 تقريبًا.

13 عاماً قررت خلالها، مثلا، أن الأدب "مالوش لازمة"؟

لا بالتأكيد. لم أتخيل ذلك طوال عمري. وكذلك لم أقل أبدًا أني كاتب. لكني وصلت إلى قناعة، أني لن أستطيع الكتابة طالما لا أستطيع أن آكل، أو أن أساعد أحداً من أهلي المحتاجين لمساعدتي. لم أكن أستطع شراء جريدة كتبت عني. فلما وجدت عملًا..

عندما تختار العمل في المحاماة، فأنت لا تختار وظيفة يتطلب إنجازها يومًا واحدًا. أنت تستلم قضية ربما تستغرق في المحكمة 6 سنوات، لذلك أصبحتُ مرتبطاً باتفاق مع العميل، لا أتركه حتى تنتهي القضية. طبعاً قراري اليوم بالتقاعد من المحاماة، أعتبره معجزة! ذلك قرار رهيب ويترك آثاراً تستمر سنوات. حتى اليوم، رغم تقاعدي منذ 11 عامًا، ما زال هناك مَن يسألني عن بعض القضايا التي كنت أتابعها، وما زال مكتبي مفتوحًا لذلك. كلفت زميلة بمتابعة هذه الأمور. في 2007 تقاعدتُ وعدتُ للأدب، وبدأتُ كتابة "صخرة هليوبوليس"، وأنجزتُ فصلها الأول وأذكر أنني قرأته وقتها على مصطفى ذكري.

- إذا تركنا قصتك عند هذه النقطة: "مستخلص جمركي. وناس عندهم قضية"، أخشى أن تُفهم بشكل سلبي. خصوصاً أنك تحولت من شخص معدم لا يملك ثمن الجريدة، إلى محام ناجح، لديه سيارة، يسكن في مصر الجديدة، ويمتلك مكتبًا في وسط البلد.

* كان ميناء دمياط ما زال جديدًا (أنشئ العام 1982)، وأهل المدينة ليسوا أصحاب خبرة كافية في عمل الموانئ، فكانت إدارة الميناء تضطر للاستعانة بآخرين معتادين على أعمال الموانئ من المدن القريبة مثل بورسعيد. والمستخلص الجمركي، موكل من صاحب الشحنة الواردة من الخارج لإنهاء كافة أوراق خروجها بالميناء وتوصيلها إلى مخزنه، ودائماً ما يطلب المستورد، عندما تكون عنده قضية، من المستخلص، أن يبحث له عن محام يفهم في قضايا الجمارك. في تلك الفترة أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكماً يقضي بعدم قانونية تحصيل مصلحة الجمارك نسبة من قيمة الشحنات الواردة تحت مسمى خدمات، وبالتالي فإن المستوردين أصبحوا في حاجة إلى محام يقاضي هيئة الجمارك لاستعادة تلك النسبة، وطبعاً هذه النسبة كانت كبيرة، ستجد أنها قد تتعدى في الشحنة الواحدة، الملايين، لا فرق بين شركات القطاع الخاص أو الشركات المملوكة للدولة والتي كانت بدورها تسترد هذه النسبة. المحامي له نسبة بالطبع من هذه الأموال المستردة. ومَن كان يعرف هؤلاء المستوردين، ويعلم حاجتهم إلى محام؟ مستخلص الجمارك.

لماذا أحكي تلك الحكاية، لأنه بعدما ظهرت نتيجة النيابة بتجاوز اسمي، كان من الصعب عليَّ أن أعود للعمل في ورش النجارة، "يعني بعدما الناس سلمت عليَّ باعتباري وكيل نيابة، هروح أشتغل تاني على البنك (طاولة النجار)". وبعد فترة قصيرة، قررت أن أعمل محاميًا، واستطعتُ بالكاد من خلال نظر بعض قضايا الأحوال الشخصية، أن أعيل نفسي، وذات يوم أرسل لي صديق وزميل من بورسعيد - مستخلصًا جمركيًا من معارفه، يريد إنجاز بعض الأمور القانونية الخاصة به في دمياط، ولما أنجزتُ له طلبه، سُرّ الرجل جدًا، وأراد إكرامي، فعرّفني على أول موكل لي من المستوردين الذين يريدون استعادة النسبة التي حصلتها الجمارك من دون وجه حق. طبعا لم أكن أعرف شيئًا عن الجمارك، فبدأت أقرأ في القانون وأسأل، ويوماً بعد آخر صرت متمرسًا، ثم ذاع صيتي، وأصبح لدي موكلين من أهم المستوردين في مصر. هم الذين أعادوني إلى القاهرة، لأن إدارات تلك الشركات في القاهرة، وثمة أوراق أحتاج أن أراجعها بنفسي في ملفاتهم.


(*) أصدر الشيطي خمسة كتب هي: "ورود سامة لصقر" (3 طبعات)، "شتاء داخلي"، وهي مجموعة قصصية عن الهيئة العامة للكتاب (1991)، و"عرائس من ورق"، مجموعة قصصية عن دار شرقيات (1994)، و"ضوء شفاف ينتشر بخفة" مجموعة قصصية عن دار ميريت (2009)، و"مائة خطوة من الثورة" عن دارَي الآداب في بيروت وميريت في القاهرة (2011).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024