فاطمة داس: الراوية بطُرز أدبية كثيرة

روجيه عوطة

السبت 2020/08/29
لا تُقرأ رواية فاطمة داس الأولى (La Petite Dernière) لمجرد التعرف على كاتبتها، أو بالأحرى على عالمها كما لو أنه عالم غامض. أبعد من قراءتها على هذا النحو، ثمة ما ينبه في هذه الرواية إلى كونها نصاً مشغولاً لكي يجمع طواله عدداً من الطُرز الأدبية، من دون أن يكون مفرطاً فيها، أو من دون أن تثقله. فمن المعلوم أن وضع أي نص بالانطلاق من اشتماله على تلك الطرز قد يجعله يقع في فخ التباطؤ، الذي يعني هنا توقفه على تشكيله، ليكون جميلاً لا أكثر ولا أقل. على أن رواية داس هي رواية جميلة بالفعل، لكن جمالها هذا، وإن كان مصدره ذلك التشكيل طبعاً، ناتج عن ارتباط هذا التشكيل بالسرد، قبل أن يتحول بحسب وقائعه.

الطرز الأساس هو الطرز البيوغرافي. لعبته تقليدية نوعاً ما، بحيث تتعلق بكون داس تروي بإسمها، إذ تفتتح كل فصل بعبارة "إسمي فاطمة داس"، لكن من دون أن تسرد قصتها الذاتية. الشخصية الرئيسية، مصوتة السرد، تحمل اسم داس، بلا أن تكونها. هذه اللعبة، وبعيداً من تقليديتها، أو قريباً منها لا فرق، تتيح لداس أن تمحو اسمها، الذي تبدأ السرد به، بحيث تعطيه لشخصية غيرها. بعبارة أخرى، بعد أن تستوي فاتحة كل فصل على اسم داس، تأتي الوقائع لتنزعه عن صاحبته، وتتركه ينتقل منها. البيوغرافيا لا تصنع اسماً، إنما تحرره.

الطرز الثاني هو ما يمكن تسميته الطرز اللساني. فخلال روايتها لولادتها في عائلة جزائرية، وعيشها في الضاحية الباريسية، تذهب داس من الفرنسية الى العربية، وبالعكس، لكي تستعيد بعض الجمل التي كان لها أثر فيها. المذهب هذا يتصف بكونه دقيقاً، ودقته هذه تعادل، من ناحية، أنه ليس متكلفاً البتة، بمعنى أن داس لا تفتعله لادعاء "حوار بين ثقافتين"، كما أنه، ومن ناحية أخرى، لا زوائد فيه، بمعنى أن داس لا تكثر منه بالانطلاق من بغية الحث على ذلك "الحوار". في الواقع، مذهب داس هو مذهب ينم عن قاموس خصوصي، عن قاموس يتعلق بتجربتها. فالطرز اللساني هو طرز هذه "القَوْمَسة الخصوصية" إذا صح التعبير، وليس طرز التكلم بلغتين أو ثلاث في النص نفسه. وفي حال الإشارة إلى مدونة هذا الطرز، فمن الممكن القول إنه "الراب"، الذي لطالما استمعت اليه داس، وتطبعت به، أي راب الضواحي والهوامش، بما هو رجاء اختلاط الألسن والأدبيات ببعضها البعض، أكان في جهة الاعتراض أم لا.

الطرز الثالث هو طرز الخشوع، أو الصلاة. إذ أن داس قد أعطت طيات من روايتها، ولم تعط أقساماً أو أبعاداً، لذلك الطرز، ومفاده نوع من التبشير بالله، بالعلاقة الإسلامية به. فتتحدث داس عن حبها له، وعن تأملها فيه، وقبل ذلك كله، عن كونه رفيقها، الذي لا يتركها، والذي ينوجد في لحظات ضيقها. فلداس نبرة تصوفية، طبعاً، وصفها بهذه الطريقة كناية عن مبالغة، لكن هذا لا يلغي أنها نبرة فيها من الخشوع إلى درجة تحولها إلى صلاة. هذه النبرة لا يمكن ملاحظتها مباشرة، بمعنى الوقوع عليها في مقطع صلاة أو تعبّد، إنما في هيئة الراوية حيال وقائع عيشها، أو موقفها منها: على صلة بها، وفي الوقت نفسه، لا تنزل فيها.

الطرز الرابع، هو طرز ايروتيكي. ونافل القول ومعلومه ان هذا الطرز ليس مشروطاً بإظهار العلاقة الجنسية وصفاً وإمعاناً في الوصف، بل، وأولياً، بالحديث عن الابتغاء. هذا ما تفعله داس في حين تناولها علاقتها مع نينا، تلك الفتاة التي عشقتها، والتي جعلها عشقها لها تقترب من مثليتها. ليس من الصعب الوقوف على الطرز الايروتيكي في هذا السياق، لا سيما في الارتباط داخله بين عشق داس لنينا وشروعها في الاتصال بجسدها. في هذا الطرز، هناك طيات اجتماعية أيضاً، تتعلق بدنيا المثلية بين عوائق الأهل والمنطقة والطبقة، وكيفية دورانها كسبيل لتخطيها.

تدرك داس كيف تصِل بين كل هذه الطرز في روايتها، ووصلها لها يتحقق عبر أسلوب ما زال في مرحلة تشكّله. تصح الاشارة إلى أن هذا الأسلوب يستند إلى ثلاثة أسماء-تجارب، كانت بمثابة بوابة داس على الأدب، مارغريت دوراس، آني أرنو، وفرجيني ديبانت التي كتبت قائلة: "هنا [في رواية فاطمة داس] تبحث الكتابة عن إعادة خلق المُحال. كيف من الممكن إتمام الصلح بين كل شيء، كيف من الممكن التنفس في العار، كيف من الممكن الرقص في نهاية درب مسدود حتى يفتح بابٌ حيث يرتفع حائط". فاطمة داس بدأت بفتحه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024