قبل أن أعرف محمد العبدالله شخصياً، سمعت قصيدته
"منفلفش الجريدة" بصوت مارسيل خليفة، أيام الحماسة والمراهقة اليسارية. وبعدما تعرفت إليه، كانت صورة قصيدته في شخصيته، أو أنه يكتب نفسه ويومياته في قصائده. دائماً أتخيله حاملاً الجريدة يقلب صفحاتها وهو في المقهى. من يعرفه، يدرك أن كلماته هي مرآة له، ونادراً ما وجدت كتاباته خارج شخصيته ومشيته على الرصيف وسهراته وليلة وسيجارته وضجره وتعبه ومغامراته ورحلاته...
يوم التقيت محمد العبدالله بالصدفة في إحدى ضواحي بيروت، وصعدت في سيارته، وهي من نوع "لادا" روسية الصنع، تخيلت نفسي أعيش نصه الساخر الذي كتبه عن سيارته. كانت السيارة الروسية المتعثرة، قناعاً للسخرية من الشيوعية التي انتمى إليها الشاعر في شبابه. تلك السيارة الروسية، رغم انها مصنوعة حديثاً، لكنها ما زالت تحتفظ بتصاميم وجدت في الستينات والسبعينات. فهي بطيئة مترهلة، ولم تتضمن حتى الزجاح كهربائي، وما زال صناعها يعتمدون "الفيتاس الأرضي" كما يسمى، ولا تنتمي الى أدنى مقومات التطور، المواكبة للتكنولوجيا، كأن الفكر الشيوعي كان على شاكلة تلك السيارة...
ربما يكون محمد العبدالله من أكثر شعراء جيله الذين تركوا جملاً وعبارات في الذاكرة الشعرية اللبنانية بدءاً من قصيدته "بيروت"، التي نالت الجائزة الأولى في مهرجان كلية التربية الشعري.
وكان تجسيداً للشاب الريفي الآتي إلى المدينة الاسمنتية، وكانت علامته الفارقة في ديوانه "رسائل الوحشة" الذي يعتبر أيقونة أعماله، خصوصاً قصيدته "مصرع دون كيشوت" التي دلّت على تقنيته الخاصة في الكتابة، وجمع فيها بين الفكري والحياتي. حتى عناوين كتبه النثرية والشعرية كانت حاضرة بقوة مثل "بعد ظهر نبيذ احمر"، "جموع تكسير"، "حبيبتي الدولة" الذي نشره خلال الحرب الاهلية إستهزاءً بالسلطات المتحكمة، وكان الكتاب موقفاً لافتاً للمطالبة بعودة الدولة.. وهناك "بعد قليل من الحب"، و"وقت لزينتها".
وخلال موجة الحرب أيضا والشعارات الثورية كتب عبارة ما زالت اصداؤها حتى اليوم: "نظرت من النافذة وإذ بها حرب أهلية". هذه العبارة كافية لدحض أطنان من النظريات الفكرية عن التغيير والثورة في لبنان. وثمة نكتة أخرى تقول إن محمد العبدالله التقى ذات مرة الزعيم ياسر عرفات في إحدى الصحف اللبنانية، فقال له ممازحاً اذ كنتم ستفعلون (يقصد منظمة التحرير) بفلسطين كما فعلتم بلبنان خلال الحرب، فخلوها لليهود.. وفي كتابه "بعد قليل من الحب"، وردت جملة أصبحت مثلاً في الايجاز والاستعارة، وهي "لولا الزبالون"، وكتب: وماذا ستكتبُ/ ما دُمتَ تعرفُ أنَّ الكتابةَ مكتوبةٌ في الكِتاب".
وفي قصائده الساخرة، حتى في أغنياته التي تضمنها كتاب
"أعمال الكتابة"(*)، السخرية حاضرة بقوة، بدءا من قصيدة "احد الاخوان" التي غناها سامي حواط، مروراً بقصيدة "ملحمة الهواء" بصوت أميمة الخليل، حيث الهواء مذبوح كالثور ومعلق بالخطافات. وتبقى أكثر القصائد المغناة تعبيراً عن الواقع اللبناني هي
"بعد اللي كان" التي غناها مارسيل خليفة وتقول:
بعد اللي كان ..
كل اللي كان أنا لا لا لا..
ما إلي خاطر ..