محمد العبدلله... شاعر المدينة الذي تعب من رصيفها

محمد حجيري

السبت 2016/01/23
لم أتابع شاعراً لبنانياً مثلما تابعت الشاعر اللبناني محمد العبدالله، سواء في نصوصه النثرية أو قصائده الفصحى أو المحكية أو المغناة، أو حتى حياته اليومية وطرائفه في السهرات وجلسات المقاهي واللقاءات، أو اهتمامه بثقافة عاملته المنزلية والكتابة عنها ووصفها بـ"الزنبقة السوداء ولؤلؤة الشرق الأقصى".

ومع أن العبدالله يعتبر من أبرز شعراء السبعينات في لبنان، وكان يكتب قصائد في ذروة الشاعرية والغنائية، وتميز بـ"المزج بين الشعر والفكر من جهة، والشعر والحياة من جهة اخرى"، وفي الوقت نفسه كان شاعر المزاج والحالة والدعابة والنكتة والكبة النية والسيجارة. لم يعط أهمية للأمور الرسمية والمنابر، كان يولي اهتمامه لنصّه بلا ادعاء أو تنظير، وأحياناً يكتب ليسخر من الشعر والثقافة والفلاسفة، فلا يجد غيضاً من وصف هيغل بـ"الحمار"، وهو لا يسعى لأن يوظف لقب الشاعر في المناخ الثقافي، وسخر من هذا اللقب في احدى قصائده، رابطاً بينه وبين المهن الأخرى. ربما يكون من أكثر الشعراء اللبنانيين القادرين على توظيف أي شيء في السخرية والتهكم والاضحاك بل والتضامن الإنساني. في إحدى المرات، وفي خضم العنصرية اللبنانية على العمال السوريين، قال لي بصوته الأجش: "فتحت نافذة الشقة هذا الصباح، فإذا بعمال ورشة من السوريين يقفون على "السقالة"، نظرت إلى وجوههم، لهم أنوف وعيون وآذان وأفواه، هم بشر مثلنا مثلهم، فلماذا هذه الحملة عليهم؟"...

وهو وإن حُسب على قائمة "شعراء الجنوب"، لم يستسغ هذا التصنيف. كتب قصائده من البداية بتقنية خاصة، جمع بين القصة والقصيدة والنص السردي المبتور الذي يشبه الرواية. كتب السيناريو السينمائي والمسرح، كتب التفعلية وأحب قصيدة النثر، بل كتب قصيدة النثر على طريقته، وخَدع أو خُدع القارئ بغنائيتها وايقاعها الصاخب، ولم ينتبه إلى أنها قصيدة نثر تخص محمد العبدالله. وعدا ذلك، راح يستعمل بعض الألفاظ من المعيش اليومي، مثل السندويش والبنزين والمقانق، أو الألفاظ المفاهيمية مثل الديالكتيك والبرجوازية "الفن برجوازي" يقول، أو يكتب عن الألوان أو ثمار الشجر"دراق بكفيا"، او حتى الشجر نفسه.

كان يقدر أن يوظف اي شيء في نصوصه. لا أنسى وصفه الدقيق لتربية الفراريج في المزارع والتي يشبه بعضها البعض، ربما هي مثل أحوال الحياة في الأنظمة الديكتاتورية... وفي أعماله الشعرية يستعمل اللغة والتعابير والصور، ومرات يهبط الى مستوى الكلام العادي والعاري من أي تنميق أو تزيين وربما هو الكلام "الشوارعي" اللطيف: "لا تقل آه للوردة الذابلة/ بل تقدّم إسقها يا حمار". ومن خواص كتابة محمد العبدالله التي كنت أتابعها في الصحف، أنه يكتب في نصوصه عن ولائم دسمة: الكبة النيّة واللحمة المفرومة والمقانق واللبنة والفراريج، لدرجة أنه عنون احد كتبه "لحم السعادة".


قبل أن أعرف محمد العبدالله شخصياً، سمعت قصيدته "منفلفش الجريدة" بصوت مارسيل خليفة، أيام الحماسة والمراهقة اليسارية. وبعدما تعرفت إليه، كانت صورة قصيدته في شخصيته، أو أنه يكتب نفسه ويومياته في قصائده. دائماً أتخيله حاملاً الجريدة يقلب صفحاتها وهو في المقهى. من يعرفه، يدرك أن كلماته هي مرآة له، ونادراً ما وجدت كتاباته خارج شخصيته ومشيته على الرصيف وسهراته وليلة وسيجارته وضجره وتعبه ومغامراته ورحلاته...

يوم التقيت محمد العبدالله بالصدفة في إحدى ضواحي بيروت، وصعدت في سيارته، وهي من نوع "لادا" روسية الصنع، تخيلت نفسي أعيش نصه الساخر الذي كتبه عن سيارته. كانت السيارة الروسية المتعثرة، قناعاً للسخرية من الشيوعية التي انتمى إليها الشاعر في شبابه. تلك السيارة الروسية، رغم انها مصنوعة حديثاً، لكنها ما زالت تحتفظ بتصاميم وجدت في الستينات والسبعينات. فهي بطيئة مترهلة، ولم تتضمن حتى الزجاح كهربائي، وما زال صناعها يعتمدون "الفيتاس الأرضي" كما يسمى، ولا تنتمي الى أدنى مقومات التطور، المواكبة للتكنولوجيا، كأن الفكر الشيوعي كان على شاكلة تلك السيارة...


ربما يكون محمد العبدالله من أكثر شعراء جيله الذين تركوا جملاً وعبارات في الذاكرة الشعرية اللبنانية بدءاً من قصيدته "بيروت"، التي نالت الجائزة الأولى في مهرجان كلية التربية الشعري.

وكان تجسيداً للشاب الريفي الآتي إلى المدينة الاسمنتية، وكانت علامته الفارقة في ديوانه "رسائل الوحشة" الذي يعتبر أيقونة أعماله، خصوصاً قصيدته "مصرع دون كيشوت" التي دلّت على تقنيته الخاصة في الكتابة، وجمع فيها بين الفكري والحياتي. حتى عناوين كتبه النثرية والشعرية كانت حاضرة بقوة مثل "بعد ظهر نبيذ احمر"، "جموع تكسير"، "حبيبتي الدولة" الذي نشره خلال الحرب الاهلية إستهزاءً بالسلطات المتحكمة، وكان الكتاب موقفاً لافتاً للمطالبة بعودة الدولة.. وهناك "بعد قليل من الحب"، و"وقت لزينتها".

وخلال موجة الحرب أيضا والشعارات الثورية كتب عبارة ما زالت اصداؤها حتى اليوم: "نظرت من النافذة وإذ بها حرب أهلية". هذه العبارة كافية لدحض أطنان من النظريات الفكرية عن التغيير والثورة في لبنان. وثمة نكتة أخرى تقول إن محمد العبدالله التقى ذات مرة الزعيم ياسر عرفات في إحدى الصحف اللبنانية، فقال له ممازحاً اذ كنتم ستفعلون (يقصد منظمة التحرير) بفلسطين كما فعلتم بلبنان خلال الحرب، فخلوها لليهود.. وفي كتابه "بعد قليل من الحب"، وردت جملة أصبحت مثلاً في الايجاز والاستعارة، وهي "لولا الزبالون"، وكتب: وماذا ستكتبُ/ ما دُمتَ تعرفُ أنَّ الكتابةَ مكتوبةٌ في الكِتاب".


وفي قصائده الساخرة، حتى في أغنياته التي تضمنها كتاب "أعمال الكتابة"(*)، السخرية حاضرة بقوة، بدءا من قصيدة "احد الاخوان" التي غناها سامي حواط، مروراً بقصيدة "ملحمة الهواء" بصوت أميمة الخليل، حيث الهواء مذبوح كالثور ومعلق بالخطافات. وتبقى أكثر القصائد المغناة تعبيراً عن الواقع اللبناني هي "بعد اللي كان" التي غناها مارسيل خليفة وتقول:  
بعد اللي كان ..
كل اللي كان أنا لا لا لا..
 أنا مش قبلان
مدري كيف حاسس إني زعلان 
أنا مدري مش 
أنا مدري شو 
ما حدا عاجبني
 ما حدا عاجبني 
زهقان وتعبان(...) 
وحياة عيونك
ما إلي خاطر ..
ما كان لي خاطر
مكسور الخاطر
بعد اللي كان 
كل اللي كان
قضيناها شهداء 
إييييييييه شهداء 
لما غنينا لشهداء...

والحال إن محمد العبدالله، الذي كثيراً ما كتب عن البلاد وشوارع المدينة، تعب من رصيفها...




(*) "أعمال الكتابة" صدر عن دار الفارابي، ويضم بعض قصائد العبدالله التي تتوزع بين المحكية والفصحى، والتي حوّل بعضها إلى أغنيات وأناشيد لكل من مارسيل خليفة وأميمة الخليل وأحمد قعبور وجاهدة وهبي وسامي حواط وعلي نصار وهاني سبليني وعبود السعدي... وكان "نادي لكل الناس" قد احتفل بالشاعر بهذه المناسبة.


©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024