أن تكون "أشقر" في العراق..

منال الشيخ

الإثنين 2017/07/17
لم تمر أيام قليلة على مقتل الشاب العراقي، كرار نوشي، بسبب مظهرهِ الجذاب والمُحب للموضة وعرض الأزياء، والذي أجزم المجرمون على أنه مثلي ومظهره مُناف "لأخلاق المجتمع العراقي"، حتى فجرت مؤخراً صورة فتاة آزيدية بملامح "أوروبية" مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما نشرت بعض الصفحات الإخبارية والرسمية لبعض من "النشطاء" على أنها "قناصة روسية" تارة، وجهادية ألمانية متزوجة من شيشاني تارة أخرى. ثم بعد المراجعة، اتضح أن الفتاة المقبوض عليها في الموصل، ما هي إلا فتاة عراقية آزيدية كانت في قبضة داعش، ومن ضمن مئات الضحايا أمثالها. تعرّفَ عليها أهلها وأقاربها بعد نشر صورها بقليل في "فايسبوك"، ويبدو أنهم أرسلوا إلى بعض الصفحات صور بطاقتها الشخصية والبطاقة الشخصية لوالدها لتأكيد هويتها العراقية. 

هذه ليست قصة موصلية، بل قصة عراقية بكل وجعها، وبكل ما يحملهُ الفرد العراقي من إرث مُنهك صار يلاحقه أينما حل. أما الطريقة التي تناولت فيها هذه الصفحات الخبر المفبرك، فكانت أقل ما يقال عنها قذرة وقميئة. فلم يسبق لي أن صادفتُ طريقة للتحريض على الاغتصاب وهتك الأعراض والقتل بصياغة الخبر، كأنه انتصار عظيم للقوات هو اغتصاب فتاة. لن أعيد نشر صور الفتاة المنتشرة، لأنه أقل واجب في حق كرامتها وحياتها، ألا نعيد نشر صورها المخزية في حق الإنسانية، وهي في قبضة الشرطة الاتحادية. لكن الصور تعيد علينا سؤال المواطنة في العراق ومدى إدراك المواطن العراقي بمفهوم المواطنة. وبحسب ادعاءات البعض، فإن ما تسبب في "الالتباس" في شأن مظهر الفتاة والجزم فوراً بأنها روسية- ألمانية هو ملامحها "الأوروبية"! أي بشرة بيضاء ولون شعر فاتح وتقاطيع متناسقة مع أنف صغير يتوسط وجهاً مثلثاً لم تمسه الجينات (السومرية، الآشورية) المعروفة.

المواطَنة لا تعني أن تتقبل وجود الآخر كمواطن مثلك فحسب، بل كيف نتعرف على بعضنا البعض كي لا نصل هذه اللحظة المؤلمة من قتل الآخر وهو حي. هذه الفتاة وغيرها وآخرون كثر كانوا ضحايا الجهل بطبيعة البلد وناسه. بعض ممن قَدموا لتحرير المدن من داعش، لم يسمعوا بها من قبل الأحداث، أي قبيل سقوطها في يد داعش، أو لا يعرفون عنها شيئاً سوى ما تتناوله وسائل الإعلام المحلية وبعض "الصفحات"، التي أصبحت مصادر خطرة على المجتمع العراقي. كل ما ساق هذا البعض إلى القتال والجهاد، من كلا الطرفين، هي فتاوى الأئمة والشيوخ التي يتبعونها عن عماء وبلا تفكير.

أظهرت المعارك الأخيرة مدى جهل الكثيرين، خصوصاً فئة الشباب، بواقع مجتمعات مدن الوسط والشمال، لا سيما نينوى. مجرد ملامح "شبه شقراء" جعلت ثلة من المقاتلين يتهافتون عليها لتصويرها في وضع مزرٍ على أنها عنصر داعشي. في معظم دول العالم يتوزع الاختلاف الجيني بحسب الجغرافيا. فأهل الشمال ليسوا كأهل الجنوب، ومن السهل جداً تمييزهم عن بعضهم البعض بسبب شكلهم العام، وأزيائهم أحياناً. فكيف لم يخطر في بال من قبض على الفتاة وصورها هكذا، احتمال أن تكون عراقية من الموصل أو أطراف نينوى، حتى لو لم يخطر في بالهم انها آزيدية. ألا يعلمون أن هناك الكثير من الشقر، نساء ورجالاً، بين أهالي الموصل الأصليين والمدن الصغيرة، سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين، توارثوا الجينات الشقراء عن عاشر عاشر جد؟ ألم يكن لديهم العلم بأن الآزيديين هم "أقلية" إثنية، قبل أن يكونوا "أقلية" دينية؟ يتميز شكلهم غالباً ببشرة بيضاء وملامح سايبيرية، حيث تمتد جذورهم إلى أبعد من ذلك، ولهم لغتهم الخاصة التي تشبه الكردية قليلاً، لكنها ليست كردية. ألم يعلموا أن الكثير من الأزيديين لهم لكنتهم الخاصة عندما يتحدثون العربية وبعضهم لا يجيد العربية، كي يتهموا الفتاة بأن لغتها العربية "المُكسّرة" كانت سبباً في هذا "اللبس". ألم يتم تزويدهم بخريطة المنطقة وقليل عن الخلفية التاريخية عنها؟ كيف دجج المسؤولون عن المعارك الآلاف من الشباب والعناصر المقاتلة، بالأسلحة وفكرة القتال والموت والاستشهاد في سبيل مبدأ هم أول من لم يؤمن بهِ؟

كل ما سبق لم يكن مهماً، ففي الحروب يحدث ما هو الأفظع، لولا تعليقات وردود أفعال الكثيرين حول الفتاة، وكيف أنهم، قبل أن يكتشفوا أنها عراقية آزيدية، طالبوا باغتصابها تباعاً من عناصر "ولد الملحة"، وهذا تعبير يطلق على شباب ورجال الجنوب لتمييزهم عن بقية رجال المدن العراقية بسبب لون بشرتهم، غالباً، وصار يتناولونه في ما بعد لتمييز شجاعتهم وقدرتهم على التحمل. لم تكن مشكلة هؤلاء فيما كتبتهُ الجهات المشار إليها كتحريض على اغتصاب "الداعشية"، حيث لجأ أحد النشطاء إلى نقل كلام على لسان جنود قال إنه سمعها منهم ومتأكد من مصادره، أنها دعت بلكنة أجنبية إلى مداعبة صدرها وعرضت نفسها لممارسة الجنس! ورغم أن هذا المدعو حذف منشوره القميء واعتذر لتسرعه في نشر خبر مفبرك، إلا أنه لم يوضح كيف حصل على تفاصيل القبض عليها وما قالتهُ ومن كان مصدره. كل ما حاول فعلهُ هو تبرير "جريمته" الإنسانية، التي تملص منها بإلقاء اللوم على المصدر، أي المقاتلين الذين عثروا عليها، ويبدو أنه لم يكن ليحذف المنشور لو ثبت أنها روسية أو ألمانية داعشية، فهو مثل كثيرين، لم تكن لديهِ مشكلة في اغتصاب "الداعشية"، بل كانت لديه مشكلة مع تشخيص "الفريسة" الخطأ. وسارعت هذه الجهات بالتشويش على أخطائهم "الإعلامية" فوراً باتهام المعترضين على تجنيهم وعدم مهنيتهم "بالدعشنة" والمتاجرة بدم "الشهداء"، كما اعتادوا أن يفعلوا في كل مناسبة. وفي الحقيقة هذا الأسلوب الذي لا ينطلي سوى على البسطاء والمُسيرين، تأتي أكلها في أحيان كثيرة، فيلتزم البعض الصمت تجاه تجاوزات مماثلة.

ما زلتُ أتذكر ما كان يتناوله "أسلافنا" عن الجنس الأشقر بيننا، كانوا يسخرون بل يهينون، وظنهم أنهم يمدحون شكله بهذه الطريقة، كلما صادفوا أشقر قالوا له: هل ضاجع إنكليزيٌ جدتكَ؟ لم يقولوا يوماً مثلاً هل كانت جدتك انكليزية؟! رغم أن تطور الجينات وتغيرها في العراق كان أكثره بسبب زواج الذكور من "أجنبيات أو أعجميات". وحتى هذا السبب يستخدم في إهانة الأجيال المتعاقبة من نسل "أجنبية". كانوا وما زالوا يستخدمون الطعن بالنساء كسلاح للانتقام من الآخر، والحرب هي البيئة الأمثل لتحقيق ذلك.

الحرب على قذارتها عموماً، تعتمد على العلم العسكري في الأساس. العلم الذي لم يعد يُدرس في مدارس العراق العسكرية. العلم الذي يتناول التخطيط وعالم الأسلحة والقتال والنفس البشرية على حد سواء.

قصة الفتاة "الروسية، الألمانية، الآزيدية"، حتى لو يتم التأكد من جنسيتها حتى الآن لتضارب الأقوال والمصادر، وليس مهماً التأكد حقيقة، فالمشكلة لا تكمن في جنسيتها، بل في طريقة التفكير الذكورية، ما هي إلا قصة بين قصص رعب كثيرة يعيشها الفرد العراقي بسبب اختلاف مظهرهِ أو شكلهِ أو جيناته التي تحكم عليهِ مسبقاً بالإقصاء بشتى السبل. لحد الآن لم يتم التعامل مع الواقعة من قبل الجهات الرسمية أو تبنيها كظاهرة مُلحة للدراسة بسبب تكرارها وإعادة النظر ومحاكمة البعض بجرائم حرب وانتهاك ومحاسبة الجهات الإعلامية غير المهنية. وحتى الآن لم أفهم: كيف وصلت الشخصية العراقية "عموماً" إلى هذا المستوى من العنف المتبوع بالشر المُضمر. ويبدو أني لن أفهم قريباً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024