ليراتنا التي تتقاعس عن كتبنا وعوالمنا الافتراضية

جان هاشم

الخميس 2020/07/16
جاء انهيار الليرة اللبنانيّة إزاء الدولار ليتوّج مجمل الأزمات التي نعيشها منذ سنوات، وإن كان قد فاقم من هذه الأزمات، إلا أنّه تصدّر واجهة المشهد في مسار تردّي وضع اللبنانيّ المعيشي وانحداره السريع نحو هاوية مفتوحة القعر. فانفجار سعر الصرف في الشهرين الأخيرين وتحليقه إلى مستويات غير مسبوقة ومفتوحة على المزيد والمجهول، أسقط كلّ تحسّب قام به المواطن اللبنانيّ منذ استشعر قبل سنة تقريباً هذه العاصفة الإعصار.

لا شكّ في أنّ الميسورين وأصحاب الثروات قد نجوا بثرواتهم، أو أنّ خساراتهم لن تغيّر كثيراً في نمط حياتهم، وأنّ الفقير ازداد فقراً تآلف معه وربّما اكتفى بكسرة خبز ولقمة مغمَّسة بنفايات هذا البلد، وهذا أيضاً تغيُّرٌ قسريّ قاهر ومتقهقر في نمط حياة. لكنّ التغيير الكبير سيصيب حتماً الطبقة الوسطى التي يقال إنها قوّة فعّالة في صناعة اقتصاد الدول وثقافاتها. ونحن أبناء هذه الطبقة سنجد أنفسنا، مضطرين إلى تغيير سلّم أولويّاتنا وإلى المفاضلة بين الضروريّ والكماليّ، بين الممكن والمستحيل، في مسار معيشتنا اليوميّة، وهو ما سيعدِّل حكماً في إمكانات ومظاهر ثقافة الحياة التي مارسها اللبنانيّ من أبناء هذه الطبقة على مدى سنوات وقد أمّنها له إلى حدٍّ كبير الاستقرارُ في العمل والتسهيلات الممنوحة من المصارف وسائر المؤسّسات التجارية.

لا يمكن إنكار عمق الأزمة، لكننا على الأرجح ما زلنا في أوّلها، وما زلنا نقاوم بما تبقّى لنا، معوّلين على حلول يبدو أنّها لن تأتي على يد هذه الفئة الحاكمة. عودة الحياة إلى حالتها الطبيعية تقريباً بعد موجة الكورونا، لم تُعِد إلى المطاعم والملاهي والمقاهي والمؤسّسات السياحية والثقافيّة ألقها المعهود، وذلك طبعاً بفعل أزمة الليرة وليس بسبب فيروس كورونا وحده. ولن يكون النشاط الثقافيّ والفنّي، وهو وجه من وجوه ثقافة حياتنا، في منأى من هذا الركود الثقيل.

من طبيعتنا نحن اللبنانيّين مواكبة العصر وملاحقة التطوّر، نحرص على اقتناء أحدث الماركات من هواتف خلوية وأجهزة كومبيوتر توصلنا بالشبكات العالمية، ليس إلا لأنّها أصبحت بالنسبة إلينا عالماً كبيراً محمولاً باليد ندخله بكبسة زرّ لنسهّل أعمالنا وتواصلاتنا ولنرضي فضولنا ونشبع نهمنا إلى الفكر والفنّ. ولنتصوّر هنا، مع سعر الدولار المتطاير، كم ستبلغ كلفة إصلاح أو تغيير أي قطعة من هذه القطع؟ لذلك أراني أحرص على هاتفي المحمول واللابتوب كلّ الحرص، وأرعاهما برمش العين كالطفل العطوب. صديق لي تعطّل هاتفه الخلويّ، سيكلّفه إصلاحه 900 ألف ليرة (100 دولار في الأساس). راتبه لا يتعدّى المليون ليرة، اضطر إلى التخلّي عنه ريثما يتدبّر أمره. خوفي، كل خوفي، على نفسي وقد أصبحَتْ في مجرى عملي واهتماماتي الثقافيّة أسيرة هذه القطع الصغيرة الحسّاسة.

واقعة اختبرتها منذ أشهر، في أحد فروع مكتبة أنطوان في بيروت. أشتري شهريّاً مجلة أدبية فرنسية بـ13000 ليرة لبنانية. كان الدولار بـ2600 ليرة، أصبح سعرها 24000 ليرة تقريباً. طاوعت قلبي واشتريتها. حملت معها كتاباً فرنسيّاً صادراً حديثاً، سعره 21 يورو. سألت الصبيّة البائعة عن دولارهم، أجابت:

- 1500 مسيو، بس هيدا الكتاب باليورو.
- يعني؟
- اليورو بـ2650 ليرة.

هنا لم يطاوعني قلبي، لن أشتري كتاباً واحداً بـ55 ألف ليرة، وأنا عادة لا أكتفي في زيارتي لهم بشراء كتابٍ واحد، بل كتبٍ عديدة، بين عربيّة وفرنسيّة. إن لم تكن مسألة إمكانات، فهي مسألة تآلف. يجب أن نتآلف مع كلفة حياتنا الثقافية، وهذا يستغرق وقتاً طبعاً إذا ما استقرّ سعر الصرف واستوت الأوضاع. فلنحتسب ثمن هذا الكتاب على سعر المنصَّة المُبتدَعة، 82 ألف ليرة تقريباً، وبسعر السوق السوداء عندما بلغ الدولار التسعة آلاف، 189 ألف ليرة. ليسترنا الله إذا ما تَفَلَّت الوحش الأخضر. إعدام ثقافي قد لا نأسف عليه إزاء الإعدام المعيشيّ.

وأنا أكتب هذه المداخلة، اتّصلتُ بأحد فروع المكتبة، وعلمت أنّ سعر المجلة، ومثيلاتها إذا ما عادت إلى المكتبات، سيكون ما بين 60 و80 ألفاً، فلنتصوّر.

لم تعد الأمور إلى مجراها في الحياة الاجتماعيّة والترفيهيّة، فكيف بالأحرى في الحياة الثقافية والفنّية التي لها كلفتها على الفرد المتابع شؤونها، كما على منظّميها من نوادٍ ومؤسّسات وجمعيّات ولجان ناشطة في سائر نواحي حياتنا الثقافيّة؟ ولن تكون عودتها سهلةً في المدى المنظور، فَمَنْ سيخاطر بكلفة إنتاج مسرحي أو سينمائي أو فنّي في وضعٍ نقدي متدهور ومتفاقِم؟

أرى الأمور كلّها مُرجأَة، فنحن في عين العاصفة وفي بدايتها، وأزمتنا كبقعة الزيت في الصوف تتمدّد وتترسَّخ، ونحن نقاوم مساومين أنفسنا على أنفسنا، ولا ندري إذا ما تفاقم الوضع، واستقرّ على كارثة فنزويليّة، إن كان غضبنا سينفجر ليغيّر الأوضاع، أم أننا سنتكيّف لنستقرّ في موتٍ اجتماعيّ وثقافيّ. فثقافة الحياة هي مجموعة سلوكيّات وأدبيّات ضدّ الموت، الموت المعنويّ بالطبع. هي العمل على إعطاء الحياة معنى، على الصعيدين الفردي والجماعي، عبر مشاركة الفرد والجماعة، على المستويات كافة وبمختلف الميول والهوايات والاهتمامات، في الإبداع أو التفاعل مع الإبداعات تقييماً وتمتّعاً. وما أخشاه هو أنْ يُعدَم اللبنانيّون وسائل ثقافة الحياة هذه، ويفقدوا بالتالي صفة "الشعب الحيّ"!

إنها الآن حالة ترقّب وانتظار، وإزاء العطب الناتج عن الأزمة، يبدو العيش الذي نهوى ونحبّ، والذي يصنع معنى وقيمة حياتنا، مؤجَّلاً.
والحياة المؤجَّلة... موتٌ بطيء!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024