"إشبيلية" تعود.. بابا عمرو يهاجر!

راشد عيسى

السبت 2018/12/15
"فرقة إشبيلية المسرحية تعود بعد غياب". كان هذا هو المانشيت الذي خصّت به وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا"، خبر عودة الفرقة الخاصة بحيّ بابا عمرو الحمصي إلى العرض في مهرجان حمص المسرحي، من دون أي تلميح أو إشارة إلى علاقة الفرقة بالحيّ الراحل (سيطرت عليه قوات النظام في آذار 2012). 

بابا عمرو كان من أوائل الأحياء التي ثارت في مظاهرات عنيدة ضد النظام، وقد دفع الثمن مبكراً، بعد معارك شرسة في العام 2012 قصف فيها الحي، الذي ينوف على الثلاثين ألف نسمة، بالصواريخ وقذائف المدفعية. ارتكبت فيه أفظع المجازر التي أودت بحياة عائلات كاملة، بنسائها وأطفالها وعجائزها، بعدما هُجّر سكان الحي بأكمله. من تبقى منهم اليوم لاجئ في مدينة طرابلس اللبنانية، وفي مخيم الركبان الحدودي مع الأردن، بينما تمكّن القليل منهم من الوصول إلى تركيا ومصر والأردن وأوروبا.

هناك قضت الصحافية الأميركية ماري كولفن والمصور الفرنسي ريمي أوشليك، عندما استهدف قصف النظام مركز بابا عمرو الإعلامي، في رسالة دموية للإعلاميين والناشطين المدنيين قبل حملة السلاح. حكاية كولفن المأساوية تحولت إلى فيلم سينمائي بدأ عرضه أخيراً في صالات السينما. 


يمكن اختصار الإبادة التي تعرض لها حي بابا عمرو بفيديو صوّره وسرّبه جنود النظام أنفسهم، حيث يستطيع المشاهد أن يرى الحي بكاميرا على ظهر مدرعة، يتحرك بين الأحياء المدمرة، والبيوت الخالية تماماً من السكان، ويسمع ضحك وقهقهات الجنود مع عبارة تقول: "بابا عمرو سابقاً"، في إشارة إلى الدمار الكامل الذي أجهز على المكان.

بعد سنوات من تلك الإبادة سيجلب النظام عائلات موالية ليسكنها في الحي، بينما سيطوقه بجدار إسمنتي، ومن نافل القول إنه لن يسمح لمن تبقى من الأهالي بالعودة إلى منازلهم، المدمرة والمنهوبة حتى آخر قطعة بلاط أو سلك كهربائي فيها.

فرقة "إشبيلية" اليوم، التي تعرض في المهرجان نصاً للإيطالي داريو فو، بعنوان "اللص الشريف" من إخراج فهد الرحمون (تقول الأخبار إن المخرج نفسه لم يتمكن من العودة إلى بيته في الحي)، لا تكترث بما حدث لسكان الحيّ، جمهور الفرقة، حيث نشأت "إشبيلية" كفرقة أهلية (تأسست الفرقة في العام 1991)، كانت ترى في جمهور بابا عمرو نموذجاً للجمهور الذي تتطلع إليه، إذ يعتبر مؤسسوها أنهم جاؤوا في وقت كانت تتنازع المسرح الحمصي طريقتان. واحدة مسجلة باسم الكاتب والمخرج العتيق فرحان بلبل، الذي يدير المسرح العمالي، وكان مسرحاً مؤدلجاً موجهاً للطبقة العاملة، يذهب إلى العمال في أماكن عملهم. وطريقة أخرى يعدّونها نخبوية، متعالية. أما الفرقة الوليدة الهاوية فقد أرادت أن تخاطب الحماصنة بلغة أبسط، فكان أهالي ذلك الحي، المقام على أطراف المدينة، هم الهدف.

لم تكن "إشبيلية" مؤسسة، تحظى بدعم وتمويل رسمي أو سواه، كانت جهداً أهلياً خالصاً يعتمد طلاباً جامعيين متحمسين (بات بعضهم تالياً محامين وقضاة وممثلين وكتاباً ومخرجين..)، ومع ذلك استطاعت تقديم بضعة عروض، كما حجزت لها مكاناً دائماً في "مهرجان حمص المسرحي". ومن هذه الفرقة الهاوية مرّ كثيرون إلى طريق الاحتراف، إذ درس بعضهم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، وباتوا ممثلين محترفين، أو نجوماً تلفزيونيين.

ومن بين أبرز عروض الفرقة: "الدب" لتشيخوف، و"قصة حديقة الحيوان" لإدوارد أولبي، و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" عن رواية ماركيز، و"سوناتا الخريف" لحسان الصالح من إخراج رمضان حمود، و"العاصفة" لألكسندر أوستروفسكي من إخراج حسان الصالح، و"دون كيشوت" نص ميخائيل بولغاكوف، و"توراندوت" لبريشت من إخراج سمير عثمان، و"الجزيرة القرمزية" لبولغاكوف، و"زواج فيجارو" لبومارشيه من إخراج حسن أبو قرعة.
لقد استطاعت "إشبيلية" بحيويتها أن تتحول، هي التي تسكن حياً على هامش المدينة، إلى مركز استقطب مواهب من مختلف أحيائها. ولا غرابة أنها كانت، بتعابير ما بعد الحرب، عابرة للطوائف. كان هذا سلوكٌ مستقر في وعي شبانها، كسائر سوريي ما قبل الحرب.

ما يدفع للاستغراب اليوم من مشاركتها في مهرجان حمص المسرحي برعاية "حزب البعث"، ليس فقط أن "إشبيلية" لا تقيم وزناً لحيّ فقدتْه ودمر في معظمه، كما فقدت جمهور بابا عمرو كله، بين قتيل ومعتقل ولاجئ، وخسرت فوقه جمهور حمص بأسره. بل أن عناصر الفرقة أنفسهم، المؤسسين خصوصاً، باتوا كلٌّ في طريق: الكاتب حسان الصالح لاجئ في فنلندا، وكذلك غطفان غنوم، الممثل والمخرج السينمائي، والمخرج والممثل رمضان حمود اللاجئ في ألمانيا، والممثل (والمحامي) أحمد سعيد الطالب لاجئ في ألمانيا، والموجع أكثر أن أحد ممثلي الفرقة عبدالعزيز الحولاني قتل في حادث مأساوي على يد قناص من جيش النظام حين أراد العودة إلى بابا عمرو، كما أن الممثل والسيناريست عدنان الزراعي، أحد أعضاء الفرقة البارزين، يقبع إلى الآن منذ العام 2012 في سجون نظام الأسد، من دون أن يتمكن أحد من معرفة أي شيء عن مصيره.

لمن تعرض "إشبيلية" إذاً! بل لمن يعرض مهرجان حمص المسرحي في الأساس، ولم يتبق من أهل المدينة وريفها إلا القليل! 

إن هو إلا نموذج لحال الثقافة والفنون في سوريا اليوم، وكيف يستخدمها النظام، يدمر حي جوبر ويهجر أهله، ثم يروّج لمشاريع نحتية تمجد الأسد في أنفاقها. يمحو مخيم اليرموك ثم يقيم ورش رسم تماماً فوق الأنقاض. يضرب الغوطة بالكيماوي وبالجوع والبراميل المتفجرة العشوائية، ثم يفتح لأبنائها معهداً لتعليم الرسم بالمائي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024