"آد أسترا": سيناريو المَجرَّة في كبسولة إنسانية

محمد صبحي

الأربعاء 2019/10/09
في فيلمه السابق المدهش، "مدينة زد المفقودة"، أخذنا جيمس غراي عميقاً إلى القلب المظلم لأدغال الأمازون في أثر مستكشف بريطاني، بحثًا عن حلمه في العثور على مدينة الذهب والذرة. رحلة أخرى يقودنا إليها هذا المخرج الأميركي الموهوب في فيلمه الجديد، "أد أسترا"(*)، وهذه المرة، نحو السماء.


في مركز الفيلم، رائد الفضاء روي ماكبرايد (براد بيت)، رجل عملي معتد بنفسه يتمتع بخبرة كبيرة في مجاله ومعروف بثباته الإنفعالي وقدرته الفائقة على إيقاف عاطفته عن التأثير في عمله: لا يرتفع معدل ضربات قلبه أبداً عن 80 نبضة في الدقيقة، ويجتاز كل تقييم نفسي بسهولة مثيرة للإعجاب. لا شيء يعوق أداء مهامه، بما في ذلك زوجته (ليف تايلر)، التي تظهر فقط في استعادات شبحية. موظف عالي الأداء وهادئ حتى في أكثر لحظات التهديد والخطر. وهو أيضاً ابن رائد الفضاء الأسطوري إتش كليفورد ماكبرايد (تومي لي جونز)، الذي تخلّى عنه قبل 29 عاماً لقيادة رحلة رحلة استكشافية إلى كوكب زحل (تُعرف باسم "مشروع ليما") على أمل اكتشاف وجود حياة هناك.

بظهور اسم والده من جديد، يبدأ الفيلم في استعادة تاريخ قديم مليء بندوب عاطفية وقرارات مصيرية. تضرب الكون موجات شمسية متفجرة تتسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء متفرقة وواسعة من كوكب الأرض. يعتقد الأميركيون أن ماكبرايد الأب لا يزال على قيد الحياة وأنه المسؤول عن هذه الموجة المدمرة. على ماكبرايد الابن الذهاب إلى المريخ لإرسال رسالة شخصية إلى والده المفقود منذ فترة طويلة. إنها دعوة وصال يستقبلها الابن بقدرٍ متساو من الجزع والفرح والرهبة. يسأل أسئلة غير متأكد من أنه يريد الإجابة عليها: "ما الذي وجده أباه هناك؟ هل كسره ما اكتشفه؟ أم أنه كان كسيراً دائماً؟"

قد يحتاج عشاق الخيال العلمي إلى تعليق عدم تصديقهم لمنطق الفيلم الداخلي، لأن غراي لا يتورّط في الجزء "العلمي". فلا كلمات مثبتة تفسّر كيف يمكن للإنسانية أن تسافر بلايين الأميال في شهور بدلاً من عقود. ولا تفسير لاختفاء أثر مرور الأيام في شخصية براد بيت، باستثناء ذلك النمو الخفيف للحيته. الوقت مفهوم زلق وغامض في هذا الفيلم، حتى يكاد يكون مدعاة سخرية. لكن يد غراي الثابتة توجّه أهداف مهمته السينمائية، ليخرج بواحد من أفضل أفلام هوليوود هذا العام.

في رحلته البالغ طولها 2.7 مليار ميل، يختبر ماكبرايد (والمشاهدون معه) ثلاث محطات: انطلاق، ثم عبور، ثم وصول. المحطة الأولى تنتهي بوصوله إلى سطح القمر، في رحلة تجارية، بعدما أصبح عامراً بالروّاد (حتى أن هناك سياحاً خليجيون). في المحطة الثانية، يقابل هيلين لانتوس (روث نيغا)، وهي موظفة أميركية مريخية المولد تتولى مسؤولية محطة فضائية عسكرية على سطح المريخ، تشاركه ندوباً نفسية مماثلة. في مشاهد محتدمة عاطفياً، يوفّر غراي، بحكمة وذكاء، وجهة نظر نسائية في وقت حاجة ماكبرايد إليها، بادئاً الفصل الثالث والأخير من رحلتة المضطربة عاطفياً. في المحطة الثالثة، ينفجر الرجل الهادئ المنضبط، بعدما خالطت شكوكه كل ما اعتبره يقيناً في ما مضي.


في أيار/مايو 2013، في مقابلة مع مجلة "ذا بلاي ليست"، اعترف جيمس غراي باهتمامه بتجديد سينما الخيال العلمي. "أريد محاولة فعل شيء محدد ومختلف. المشكلة هي أن غالبية المخرجين الذين يتعاملون مع الخيال العلمي، باستثناء "2001: أوديسة الفضاء" لستانلي كيوبريك، ينتهي بهم الأمر إلى عرض للألعاب البصرية. لست مهتماً بذلك. أريد أن أفعل شيئاً أكثر مفاهيمية". كان غراي ييحث عن بناء سينمائي يستند إليه لاستشعار جلال وروعة استكشاف الفضاء. الآن تتحقق هذه الرغبة المؤجلة مع "آد أسترا"، كواحدة من أكثر الرحلات الفضائية حميمية في تاريخ السينما. فيلم ينفر من العظمة المصطنعة والكلمات الطنّانة، مدفوع بروح مغامِرة وطموح فلسفي موزون، مثلما كان الحال مع فيلم غراي السابق، "مدينة زد المفقودة".



عبر أحداث تتمهّل في لهاثها، وسرد غير مهتم بالتدقيق العلمي ودراما محبوكة توازن الملمح الإنساني والإبهار البصري؛ يشكّل الفيلم مغامرته الفضائية الجريئة على نحو يستدعي كثيراً جوزيف كونراد وروايته "قلب الظلام"، باستقصاء دقيق داخل نفسية فرد وحيد بمواجهة قدره، مثلما وجد بطل كونراد نفسه في مواجهة الطبيعة في رحلة مظلمة داخل عالم مظلم، حيث لا يملك إلا إحساسه بالعزلة والوحدة. وهي مغامرة سيكولوجية أيضاً، يواجه فيها البطل عُقَدَه الأبوية، مثلما تُقارب مآزق مستعمري الفضاء المستقبليين والطموح الإنساني الذي لا يتوقف عند حدّ تدمير الذات.

يحرص سيناريو غراي وزميله في الكتابة إيثان غروس، على أنه، خلف كل اللقطات المذهلة للنظام الشمسي، ينصب التركيز بشكل مباشر على الدراما الإنسانية. وبالاستناد إلى تاريخ غراي السابق في استكشاف أفكار العائلة والبطولة والحميمية والذوات التدميرية، فهناك الكثير من اللحظات الخاطفة للقلب والعين أثناء فيلم ينتقل من مكان مروّع إلى غيره في مغامرة تمتد عبر أنحاء النظام الشمسي.



التعليق الصوتي، كما يليق بفيلم لتيرينس ماليك، يأتي محايداً بلا استطرادات عاطفية زائدة. من خلال مقاربته المبهرة لأسئلة الوجود الكبرى، يجوب غراي المناطق القريبة من خيال تيرينس ماليك، رغم أنه، بدلاً من تحويل فيلمه إلى صلاة يتوجهّ بها إلى إله غير مرئي (كما يفعل ماليك غالباً)، يفضّل لعب حكايته على مستوى أرضي/بَشَري. في الواقع، إنه لأمر مدهش أن فيلماً يدرس الارتباك الوجودي في سيناريو مجرَّي (نسبة إلى مجرَّتنا الكونية) لا يقع في أي نوع من التعالي أو الإبهام. في صميم الفيلم، نجد في كل الأوقات، شخصية براد بيت، الذي يكمل دائرة أجيال استثنائية بدأ رسمها في "شجرة الحياة" لماليك المتوّج بسعفة "كان" الذهبية قبل 8 سنوات. إذا كان بيت يجسّد في فيلم ماليك، بواقعية صادمة، أباً معذباً بعجزه عن الإيفاء بقيادة أسرية فرضها على نفسه؛ ففي فيلم غراي يتولّى الممثل مهمة إخفاء شكوك تنهش طفلاً ضائعاً، خلف جَلَد وصرامة بطل تراجيدي. في المجمل، إنجازٌ تمثيلي مماثل، يتطلب مهارة وقوة، يزيد من ثقل "آد أستراإخفاء شكوك تنهش طفلاً ضائعاً، خلف جَلَد وصرامة بطل تراجيدي." سينمائياً.

أداء براد بيت منضبط وملائم لطبيعة شخصيته، قادر على نقل الاضطرابات الداخلية لشخصيته بأقل التعبيرات. وفي صيف شهد أيضاً قيام بيت بأداء دور مميز في "ذات مرة في هوليوود" لكوينتين تارانتينو؛ يتفوّق هنا صاحب الـ55 عاماً على نفسه، في تصويره لرجل متصدع عاطفياً، يصارع مسائل أبوية ويبحث عن ذاته. إنه دور سيجعله حاضراً في موسم الجوائز، بعد شهرين من الآن. غراي، من جانبه، في أولى محاولاته في الخيال العلمي، يأخذنا في رحلة تخطف الأنفاس ويذكّرنا أنه حتى عند حافة مجرتنا الكونية، فإن قدرتنا على الأمل والتسامح هي ما تحدد إنسانيتنا.

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024