محمد فوزي.. قتله نظام ناصر وإن لم يقل "لا"

أحمد شوقي علي

الثلاثاء 2019/03/19
ثمة طرق كثيرة لسرد مأساة المطرب محمد فوزي، لكن المؤرخ والناقد الفني أشرف غريب يختار الفرضية المحزنة لعرض وقائعها، يقول: "لو أن محمد فوزي كان قد استوعب جيدًا مشهد ذهاب أم كلثوم بعد أيام قليلة من قيام ثورة يوليو 1952 إلى مبنى الإذاعة المصرية في شارع علوي من أجل التخلص من كل أغنياتها التي كانت قد تغنت بها للملك فاروق قبل الثورة، (...) لربما كان قد تجنب كثيرًا مما وقع له لاحقًا، لو كان له أصدقاء ومستشارون مخلصون وعالمون ببواطن الأمور (...)  ربما تحول محمد فوزي إلى نجم هذه المرحلة الثورية، لو أنه أحاط نفسه بشبكة من العلاقات مع قادة الدول كحال عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين تدخل الملك عبد العزيز آل سعود شخصيًا سنة 1953 من أجل عدم مصادرة أموالهما، لوفّر على نفسه كثيرًا من المشكلات، لكنه لم يكن كذلك. كان فقط مطربًا وممثلًا أحب بلده وفنه".

سردية محزنة
وفي تلك السردية المحزنة، لم يكن فوزي وحده المضطر إلى ممارسة دور آخر غير دوره لينجو، وإنما بدا على الثلاثة أن يقوموا بأي شيء سوى أداء وظائفهم كفنانين. فتجري أم كلثوم مندفعة إلى الشارع  قبل أن يستيقظ الضباط فيحاسبونها على ما فعلته قبل تقلدهم مصائر الحكم، ويسرع عبد الوهاب لاستجداء ملك آخر، غير الذي رحل، ليشفع له لدى حكامه الجدد، فيجنبه ضياع ما كوّنه من كدّه عبر السنين، فيما وقف محمد فوزي لا يجد موطئًا لقدميه غير السقوط في مصيدة العقاب. لكن العقاب على أي ذنب بالضبط؟ هل بسبب علاقته النفاقية بالملك والتغني باسمه، والمعروف ان فوزي غنى للملك وغنت معه أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم وغيرهم، وغنوا أيضًا ليوليو ولجمال عبد الناصر في الانتصار والكسرة!
ما يدهش، هو أن محمد فوزي سجل نحو 30 أغنية وطنية بعد الثورة، حسبما يشير أشرف غريب في كتابه الأحدث "محمد فوزي.. الوثائق الخاصة"(*)، وكان من أشد المتحمسين لحركة الضباط منذ انطلاقها، ولم ينتظر مثل غيره حتى يتبين اتجاه بوصلة الزعامة فيهم، بل اندفع منخرطًا في كل الأنشطة التي دعا لها اللواء محمد نجيب، وظهر في صدارة المتطوعين للمبادرة التي أطلقها قائد الثورة "الظاهري" تحت عنوان "قطار الرحمة" لجمع تبرعات للفقراء. وكذلك شارك في جمع التبرعات لتسليح الجيش، ولم يتخلف عن أي اجتماعات دعا إليها نجيب للقاء الفنانين، فكان ذلك، من دون أن يدري، ذنبه الأعظم الذي حاسبه عليه النظام الجديد بقية حياته.

شعارات وطنية
لكن أشرف غريب يسجل لفوزي، أيضًا، العديد من المواقف التي تثبت أن ولاءه لم يكن لشخص بعينه وإنما للشعارات الوطنية التي رفعتها ثورة يوليو، حتى أنه تبناها في أدائه اللاحق على مستوى وظيفتيه كمطرب ومنتج. فإلى جانب أغنياته التي واكبت جلاء القوات البريطانية عن مصر، والتصدي للعدوان الثلاثي، تحمس أيضًا لتحفيز إقامة وحدة مع السودان، وتشجيع الوحدة مع سوريا، ومناصرة قضايا التحرر الوطني على مستوى العالم العربي وإفريقيا. وسعى، عبر جمعية المؤلفين والملحنين، لجمع التبرعات لإعمار بورسعيد بعد العدوان الثلاثي، وسلّمها شخصيًا لجمال عبدالناصر.

من جهة أخرى انتبه محمد فوزي إلى ضرورة استقلال الاقتصاد المصري بشكل عام، والغنائي على وجه الخصوص، عبر توفير لوجسيتيات الصناعة الثقيلة. فقبل العام 1956، كانت الأغاني تسجل في مصر وتسافر عبر البحر إلى لبنان أو أوروبا لتُطبع، أو كانت تسجل وتطبع في الخارج. ولأن ذلك كان يكبد المنتجين نفقات ضخمة، وكان يعرض أيضًا التسجيلات للتلف عبر عمليات الشحن المختلفة، رأى فوزي أنه من الضروري إنشاء مصنع للإسطوانات، بحيث تسجل الأغاني وتطبع في مصر (أنشأ عبدالحليم مصنعًا مثله في وقت لاحق، لكن جعل مقره قبرص)، وكان ذلك لاحقًا على إنشائه شركة "مصر فون" لإنتاج الأغنية.

وفعلاً، بدأ فوزي في تنفيذ مشروعه، واضعًا فيه جل ثروته، ومستعيناً بشراكة بدأت أولاً بالتعاون مع مستثمر سعودي، حلت محله لاحقًا شركة فيليبس الهولندية الشهيرة. الأمر الذي ينفي أي فرضية تضعه معارضًا  لناصر أو مواليًا لنجيب. لكن ذلك كله، لم يكن كافيًا لأن تحتضنه ثورة يوليو كأحد مناصريها ومحققي استراتيجيتها على أرض الواقع، أو على الأقل، لم تشفع له لديها كي تتركه يعمل بسلام، فأمّمت مشروعه وجرّدته من ثروته كلها من دون منطق واضح.

لم يكن محمد فوزي الفنان الوحيد الذي عانى قرارات التأميم، سبقه في ذلك زكي رستم الذي طبقت على أسرته قرارات الإصلاح الزراعي، وماري كويني التي فقدت مُلكيتها لاستديو جلال بعد التأميم. لكنهما لم يتعرضا لأكثر من ذلك، على خلاف فوزي الذي أُمّمت شركته التي احتضنت كامل ثروته، جورًا، وسُلبت منه الفيللا التي كان يمتلكها، بدعوى احتوائها على استوديو للتسجيل، وبل وتم تحميله الخسائر التي تكبدتها شركتها خلال سنوات لم يكن فيها شريكًا في الإدارة. وكان ذلك نهاية لسلسلة سابقة من التضييق الممنهج، بدأ منذ العام 1956، حين أحجم موزعو أفلامه في الخارج عن التعامل مع إنتاجه، وفُرضت الحراسة على شركة "بهنا فيلم"، موزعه المحلي الوحيد في مصر، فضلاً عن إثارة كراهية الفنانين الآخرين تجاهه، والتي كان من شواهدها أن كتب حسين فوزي، الذي أخرج له ثلاثة من أفلامه، رسالة إلى شركة "بهنا" يصفه فيها بالممثل الفاشل ويستعديها ضده.. كما أحجمت الإذاعة التي كانت تبث الأغاني الوطنية يوميًا، عن بث أي من أغانيه الوطنية التي وصل عددها إلى 30 أغنية، بالإضافة إلى طمس جميع الأغنيات التي غنّاها في مناسبات مختلفة لمحمد نجيب.

الإذلال الممنهج
ولم يكن ذلك، على ما يبدو، كافياً، ليشفي غليل الدولة الناصرية، الذي لا يطفئه في الواضح سوى مزيد من إذلاله. فبعد تلك المصائب التي تلاحقت على رأس محمد فوزي، وقع فريسة للمرض فنهش جسده حتى أفناه، وسط تقاعس متعمد من قبل الدولة -التي استولت على ثروته كلها- عن مساعدته. فهل كان عبد الناصر غافلًا عما يعانيه محمد فوزي، أم أن أشخاصًا آخرين حالوا دونهما؟

يرجع أشرف غريب، في أكثر من موضع في كتابه، أسباب استعداء نظام دولة يوليو لعبد الناصر، إلى أنها حسبته بشكل مطلق على اللواء محمد نجيب. لكنه لا يستبعد أيضاً أن يكون لسامي شرف، مدير مكتب جمال عبدالناصر، والذي كان يرغب في الزواج من الممثلة الفاتنة "كريمة"، الزوجة الثالثة لمحمد فوزي؛ دخلٌ في الأمر.


غير أن ذلك السبب أو غيره لا يغير في النهاية من طبيعة الصورة المهينة التي تعاملت بها الدولة مع مرضه. فبعد أربع سنوات من المجهودات الدرامية التي قادتها أم كلثوم وفريد الأطرش وتحية كاريوكا لدى النظام، لاستصدار قرار بعلاج محمد فوزي على نفقة الدولة، صدر له القرار على مضض بتحمل نصف تكاليف علاجه فقط في الخارج من دون مرافق، وعيّن له مبلغ خمسة جنيهات يوميًا كلفة للعلاج! قبل أن ينجح الفنانون بعد جولة أخرى من الصراعات الدرامية في الحصول على قرار بتحمل الدولة كامل نفقات علاجه، قبل أشهر قليلة من وفاته، وبعدما كان المرض قد تمكن منه نفسياً وصحياً ومادياً، وبعدما اضطر إلى استجداء النظام عبر الإدلاء بعشرات التصريحات التي شكر فيها دولة يوليو وثمّن إنجازاتها.

إن الوقائع التي يسردها كتاب "محمد فوزي.. الوثائق الخاصة"، ويضيق المجال في ذكرها هنا، رتبها أشرف غريب بذكاء مقصود على غير عادة السرد الذي يضع البداية ثم العقدة، فالاستنارة التي تحلّها وتنهي القصة بسلام. فقد أجّل المأساة حتى نهاية الكتاب، فيما تشبه بنية رواية خيالية، تتبع قصة صعود فنان لامع وترصدها حتى أفوله بشكل مأسوي. لكن المؤسف فيها أن مؤلفها لم ينسج أحداثها من خياله، وإنما رصد ما جرى فعلاً في الواقع. ولا يخفف من وطأة مأساويتها سوى الجهد الذي بذله أشرف غريب للوصول إلى سردية موثقة وحقيقية عن كل ما جرى، التزم خلالها أسلوبًا مميزًا، تجاوز موضوع بحثه ليقدم صورة أشمل وأعمق عن الواقع الفني منذ الأربعينيات وحتى منتصف الستينات، لتصبح معه حياة محمد فوزي نافذة للإطلاع على عصر بأكمله، وتتخذ معه مفردة الوثائق معنى أشمل من مجرد اختصارها في المستندات الخاصة بشخص ما، وإنما تتسع لكل ما امتلكه وما أدّاه وما أثير حوله من مواد خضعت كلها للتحقيق والتحليل.

(*) صدر الكتاب في 377 صفحة من القطع المتوسط، عن دار "بتانة" بالقاهرة. ويضم، إلى جانب مادته السردية، ملاحق تحتوي على لوائح بأعمال محمد فوزي السينمائية والغنائية واللحنية، فضلاً عن ملف يضم عددًا من صور محمد فوزي النادرة. وفي الكتاب أيضاً، الكثير من الوثائق التي يُكشف عنها للمرة الأولى، مثل شهادة ميلاد محمد فوزي، وصور شخصية لوالديه وزوجته الأولى وأبنائه الأربعة، وإيصال إيجار شقته التي تزوج فيها من "كريمة"، ورسالة بخط يده إلى هدى سلطان، ووثيقة من الملك عبد العزيز آل سعود يتواسط فيها لعبد الوهاب وأم كلثوم لدى نظام دولة يوليو، وغيرها الكثير.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024