حنين إلى قوة لبنان في ضعفه

محمد حجيري

الأربعاء 2020/06/24
لطالما شغلت مقولة "قوّة لبنان في ضعفه"، لمؤسس حزب "الكتائب" بيار الجميل، الرأي العام في السلب والإيجاب. والمقصود في المقولة، الدعوة إلى "تحييد لبنان"، ومردّ هذا التحييد ضعف تركيبة هذا البلد، لا شعبه. وبزعم مؤيدي هذه العبارة "أن ضعف بنية لبنان يشكل في الوقت نفسه مصدر قوته، لأنّ هذا الضعف يستدعي تحييده عن مشاكل المنطقة وإبعاده من صراعات المحاور الخارجية"...

في الواقع، تحمل مقولة مؤسس "الكتائب"، الشيء ونقيضة، في الوقت نفسه. فتحييد لبنان أوجب الواجبات، لكن كيف؟ وبأي طريقة؟ ضعف تركيبة هذا البلد وهوياته، جعله أرضاً خصبة لتدخلات الأغيار وتغلغلهم، سواء في مرحلة ما قبل تأسيس "لبنان الكبير" في زمن المتصرفية الذي سُمي بزمن القناصل والمبعوثين، أو في مرحلة صعود تيارات القومية العربية والصراع العربي الاسرائيلي، حينما تحول لبنان ساحة لحروب لا تنتهي.

في البداية، كانت حرب 1958، يوم صار لبنان مستنقعاً لصراع المحاور والأحلاف. كان الخارج صلفاً في تدخلاته في لبنان، وكان الداخل وقحاً في الانصياع للخارج وتقبّل السلاح والفوضى. كانت حرب 1958 تجربة أولى للعنة دخول لبنان في المحاور، لكن الجميع لم يتعلموا الدرس... وعندما قال الجميّل عبارته، جلبت عليه سيلاً من الشتائم والسباب، ونشأت من بعدها تنظيمات مسلّحة وجماعات عنفية، هازئةً من ضعف لبنان، فخورة بـ"السلاح زينة الرجال" و"ع خصري كلاشنكوف"، واستحضرت وتعاونت مع الاحتلال السوري (الأسدي) من جهة، والاحتلال الإسرائيلي (الشاروني) من جهة أخرى، في إطار الصراع على السلطة والنفوذ. وحتى الآن، ما زال المجتمع يئن من تداعيات تلك الرهانات الجحيمية في الاتكاء على الأغيار، أعداء أو أشقاء. ولم تكن المحصلة تحييد لبنان، بل إغراقه في الصراعات الإقليمية (التي شارك فيها بشير الجميل نجل بيار الجميل). وبعد الاجتياح الاسرائيلي، العام 1982، دخلت إيران كطرف إساسي في الصراع الاقليمي، وتحول لبنان صندوق بريد لإطلاق الرسائل، على حساب أرواح المواطنين وعيشهم، وغلبت الإيديولوجيا الدينية والطائفية معيار الولاء الوطني...

وفي سنوات ما بعد الحرب، بقيت وتيرة شتم مقولة بيار الجميل. لم يبق سياسي ممانع أو يساري خشبي أو بوق إعلامي مدفوع الأجر، إلا وذمّ وشتم تلك العبارة، وصرنا في دائرة ثقافة تمجيد القوة ومقاومة "حزب الله" ومقاولاتها المستهلكة. وزادت الوتيرة، مع خوض "حزب الله" حروبه المقدسة وإعلان انتصاراته المجيدة، فصار تمجيد القوة خطاباً يومياً وانتهازياً. فنسمع "حزب الاتحاد" يقول: قوة لبنان في معادلته الذهبية وليس في ضعفه. نائب "حزب الله" نوار الساحلي يقول: زمن قوة لبنان في ضعفه ولّى إلى غير رجعة. جريدة "البناء" القومية السورية تكتب: قوة لبنان ما عادت في ضعفه... ووصلت الأسطوانة في صحيفة اسمها "الوطن" لتقول: لم تعد قوة لبنان في ضعفه، بل في غازه... في الواقع كان "حزب الله" يزداد قوّة على حساب ضعف الدولة اللبنانية وهوانها، ورسا هذا المشهد على اختلال في النسيج الاجتماعي والسياسي.

وانتجت قوة "حزب الله" ووهجه، نوعاً من غواية لدى بعض الكتّاب والشعراء. فكتب الشاعر أنسي الحاج مقالاً بعنوان "حيث يجازف بكل شيء"، خلط الماضي بالحاضر، والشعر بالسياسة مع بعض الرؤية... قال: "كان لبنان قوّة إقليميّة عظمى قبل أن تدمّره أيديه وأيدي ضيوفه وأيدي شقيقته وأشقائه وعدوّته وأعدائه"... و"كان أكبر قوّة أدبية وفكريّة وفنيّة في الشرق الأوسط بإسرائيل ومن دونها. والحروب التي حطّمته غيّمتْ على أسطورته الإمبراطورية تلك لكنّها لم تستطع أن تمحو آثارها ولا أن تقتلع جذورها ولا استطاع أحد الحلول محلّ هذه الدوحة الغريبة"... و"ساعد المناخ السياسي والاقتصادي الليبرالي كثيراً في توفير الظروف المؤاتية لازدهار تلك القوّة، لكنّها لم تكن قوّة سياسيّة. معدنها هو ذَهَب المواهب والعبقريّات الفكريّة والإبداعيّة وفضاؤها هو الجمال والحريّة لا عروش السلطة". وقبل أسبوع، أعلن حسن نصر الله، في خطاب، أن لبنان أصبح "قوّة إقليميّة عظمى".

من عجائب الحروب أن نتائجها تُنسيك مآسيها. الهزيمة تجعلك غير مهموم إلاّ بلملمة الذات، والنصر يجعلك تنسى الأحزان. قوّة صَنَعَتْها الحرب ومطلوب تجييرها للسِّلم. لا تستطيع القوّة الماديّة أن تبقى ماديّة في شعب يحيا بأحلامه. لا بدّ أن تتحوّل. حديدها يصبح ذَهَباً كما يَشفّ النبات ويصبح فراشة. هذه "القوّة العظمى" حلم بها أنطون سعادة، وأصبحت أدباً وشعراً ونبضاً اجتماعيّاً. وتطلّع إليها سعيد عقل، فإذا هي فتوحات شعريّة. ولحّنها الأخوان رحباني وغنّتها فيروز، فإذا لبنان أجمل من أي لبنان ومن كلّ شيء. و"لبنان في حاجة إلى آباء يُلْقون السكاكين وينشرون فوق البلاد أجنحة السلام والسخاء". لكن أمنيات الشاعر كانت مجرد كلمات جميلة، نستذكرها، ونتأمل في جوهرها، وندرك أن الذين كتب عنهم، في ثقافتهم، وراء كل حربٍ، حرب جديدة وكابوس آخر، والصواريخ ليست لدعامة الحرية بل لمزيد من القمع والهيمنة وطحن البلد في مستنقع المحاور... وعبارة "لبنان قوة عظمى" التي أغوت أنسي الحاج لكتابة مقاله أو خواتمه، يمكن تأويلها في مكان آخر، فنصرالله في الباطن يقصد من بعد حروبه، أن "حزب الله" قوة إقليمية عظمى وليس لبنان...

هي غواية القوة مع أن الجميع ضعفاء، وهم مجرد مجندين في محاور ليست لهم. فمع وصول الجنرال ميشال عون إلى الرئاسة، سُمي عهده بـ"العهد القوي"، و"الرئيس القوي"، بزعم أنه الأكثر تمثيلاً للمسيحيين بعد موجة من الرؤساء كانوا "ضعفاء" لناحية تمثيل المسيحيين. وترافق العهد القوي مع موجة عراضات سياسية باهته. فسمّى جبران باسيل كتلته "لبنان القوي"، وردّ عليه سمير جعجع بتسمية "الجمهورية القوية". وهكذا صار المنوال، جماعات تبحث عن القوة والملاحم الشعرية، وفي الواقع الجميع يغرق في الهوان والذل العالي والتصنع والانصياع للأغيار... كأننا في مرحلة مأسوية ولا نعترف. ففي مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، صرنا نحنُّ الى زمن "قوة في لبنان في ضعفه" التي لم تتكرس في لبنان إلا في سنوات قليلة. فبحسب حازم صاغية "كنّا ضعفاء. آنذاك تحسّنت معدّلات دخولنا ونمت جامعاتنا وتحسّن تعليمنا وتكاثرت مشافينا وراحت الرأسماليّة". وفي مرحلة "الإصلاح والتغيير"(العونية) و"العهد القوي"، يبدو أننا سنحنُّ الى زمن ينسب إليه "الفساد". ففي منتصف العهد القوي، يرتفع سعر الدولار بشكل جنوني، وتجلب المحال التجارية كميات كبيرة من الشمع تحسباً لانقطاع الكهرباء المرتقب، وتتحول اللحمة مادة غذائية نادرة في طعام في بيوتنا، وتصبح المدارس الخاصة حلماً، وربما نخسر ما تبقى من مسيحيين وهم يدقون أبواب سفارات كندا وأستراليا والمكسيك، بحثاً عن هجرة جديدة، وهذا كما يقال في زمن العهد القوي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024