"اختطاف" فرنسوا بيغودو للانتهاء من العائلة البرجوازية

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/09/01
مضحكة هي العائلة البرجوازية، بل انها كاريكاتورية. لكن وضعها الكوميدي هذا، لا يلغي العنف الذي تختزنه، إنما، على العكس، يؤلف شكلاً له. العائلة البرجوازية، التي تظهر كما لو أنها العائلة، كما لو أنها مثالها، هي نواة هذا العنف، الذي يبدأ منها ليتمدد إلى الباقي من مجتمعها، فيكون بمثابة سبيل لحماية استنقاعه وانغلاقه.


هذه خلاصة سريعة ومختصرة للغاية لرواية فرنسوا بيغودو الجديدة "اختطاف" التي صدرت منذ أيام عن دار "غاليمار"، والتي يأخذ على عاتقه فيها تناول تلك العائلة، قصة يومياتها، أو وقائع عيشها ودورانه. لكن هذه الخلاصة، وإن كانت على سرعة واختصار، الا انها تشير إلى أمر معين: في حين ان نقد العائلية غالباً ما يحصل في العموم والمطلق، كما لو أن العائلة في كل الطبقات هي نفسها، يقدم بيغودو على تسديد نقضه إلى العائلة مثلما تصنعها البرجوازية وتفرضها مقدمة إياها كنموذج أمام باقي الطبقات. لهذا، لا يمضي بيغودو إلى استعادة هذه العائلة مثلما كانت في الماضي، في القرن المنصرم، ومعها، يسترجع مدونة إطاحتها، إنما، يبينها كما هي في الوقت الراهن.

فيروي بيغودو حكاية عائلة ايمانويل وبرون، وابنتهما جوستين وابنهما لوي. اول ملاحظة على هذه العائلة أن كل فرد منها يبدو، ومن مطلع الحكاية اياها، في دوره أو وظيفته. الأب يحصي المال من شركته، الأم تشتغل في التواصل، أو في "إدارة الازمات"، الابنة تحقق رغبة والديها في أن تكون الأكثر انضباطاً مدرسياً، أما الابن فهو الذي يكسر هذه الميكانيكية، بحيث أنه يعاند الأهل في تعلمه القراءة. من وظائفهم هذه تنعقد علاقات ميكانيكية في ما بينهم، غالباً ما تتمحور حول نوع من التحدي، الأب يتحدى الأم، الأم التي تتحدى الابنة، الابنة التي تتحدى الابن، حول معلومة أو شأن أو موقف ما، بالطبع، الكل يستضعف الكل، لكن هذا الاستضعاف لا يبرز سوى كحالة "طبيعية". إذ إنه بمثابة طريقة لـ"ترقي" هؤلاء الأفراد، أو لـ"تطورهم" أو "الاهتمام بأنفسهم" كما تقول لهم مجلة علم النفس أو محاضرة "TEDX".

بالطبع، هذه العلاقات الميكانيكية هي نفسها التي تنبسط من العائلة لتشتغل في مكان العمل، وفي الصف، وفي رجاء الخيانة الزوجية، ومعها، تشتغل لغة هي ليست سوى لغة إدارة الأعمال التي تعبر من فرد إلى ثان. فتجعل نظرته إلى حياته نظرة تسطDحية، حيث الناس أرقام متشابهة، واي رقم يبرز بينها ولا يكون مثلها، يُعدّ غريباً. نافل القول إن الغريب هنا هو كل ما لا يمت إلى طبقة العائلة بِصِلة، كل ما يتعلق بالطبقات الشعبية، ومن نافل القول أيضاً أن غربته تحمل على المقت والخوف. فالعائلة البرجوازية عائلة الكراهية بامتياز، لا سيما بنسختها "الخيرة"، أي حين يجد أفرادها أن كل ما لا ينتمي إلى طبقتهم يريد هذا الانتماء على أساس  انه انتماء إلى السوية، فيقدمون على "إعانته إنسانياً" مباشرة أو مواربة.

على أن بيغودو، وفي حين تنقله بين وقائع عيش هذه العائلة، يرمي بسرده صوب ما يعارضها، أو ما يمكن الحسبان انه كذلك، أي ابنها. إذ إن لوي يرفض القراءة، وبهذا، أي بعارضه، يبدو أنه يعصى أمر العائلة، ويبث الاضطراب فيها، وفي الوقت نفسه، يسجل حقيقتها بوصفها حبساً، أو على الأقل حيزاً للإختناق، لا سيما انها لا تمثل اي عضو من اعضائها فعلياً.

بالتالي، وبرفضه القراءة، بتصويرها أنها عويصة، ولا قدرة له عليها، يحاول البحث عن منفذ من هذه العائلة، أو بالأحرى، وقبل البحث عن منفذ، يسعى إلى تجنب الانخراط فيها. أما منفذه ذاك فيجده في "الاختطاف"، أي في خبر الخطف الذي تعرض له تيو، وهو ابن مستثمر كبير. لكن تيو لم يُخطف، بل فرّ من عائلته أيضاً. وبهذا، يشكل للوي شخصية برانية، ترسم له الطريق من أجل ان يغادر العائلة بدوره. يعقد معه صلة هاتفية، ويحاول ان يُختطف على نحوه. ففي عائلة لا هواء فيها، يبقى الانخطاف هو الحل.

لقد استطاع بيغودو، وبسرده السلس، أن يقدم للقراء حكاية العائلة البرجوازية بتفاصيلها أو بيومياتها. كما تمكن، ومن مطلع سرده إلى نهايته، من عقد تلك التفاصيل واليوميات مع تفاصيل ويوميات البلد بأكلمه، اي فرنسا. بمعنى آخر، وبواسطة سرده، ربط العائلة بالنظام، وصحيح ان هذا الربط، يبدو، في بعض الأحيان، تبسيطياً، لكنه، ينطوي على محاولة تتأرجح، وبدقتها، بين السوسيولوجيا والأدب: "تُسَسْلِج" الأدب، و"تؤادب" السوسيولوجيا. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024