وهن المسلمين وحلم سيادة العالم

ناصر كامل

الإثنين 2020/11/09
طوال عقود، وصف العديد من المسلمين دينهم ومجتمعاتهم بأوصاف أشد حدة من أوصاف إيمانويل ماكرون، التي ضمنها في خطابه يوم 2 أكتوبر الماضي، ففي كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"؛ الذي "يتضمن سيرة عشرة من المصلحين المحدثين، في الأقطار الإسلامية المختلفة"، يحدد أحمد أمين الإطار الزمني لصعود "الإسلام" و"أزمته"، فيذكر في مقدمة كتابه أن "العالم الإسلامي بلغ في القرون الأربعة الأولى شأواً بعيداً في الخُلق والعلم والحضارة، حتى كاد يكون سيد العالم في هذا كله. ثم بدأت فيه عوامل الضعف بعد ذلك، وتوالت عليه الكوارث، وتتابعت عليه الخطوب، وكلما مر عليه زمن زاد ضعفه وبدا هُزاله".

ويصف، أمين، أحوال المسلمين طوال نحو 8 قرون وصفاً عاماً هكذا: "وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي- إذ ذاك- شيخاً هرماً حطمته الحوادث، وأنهكه ما أصابه من كوارث. فساد نظام، واستبداد حكام، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلام للقضاء والقدر، وترديد لقول الشاعر: دع المقادير تجري في أعنتها/ ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البال"، وفي تخصيصه لوصف أحوال الديانة الإسلامية يذكر أن الدين فقد روحه "وصار شعائر ظاهرية، لا تمس القلب ولا تحيى الروح، سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، والدين مظاهر شكلية، ووسيلة النجاح في الحياة ليست الجد في العمل، ولكن التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء، فهم الذين يُنجحون في العمل، وهم الذين يَنْصرون في الحروب. والشوارع والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين". ثم يقوم بعرض لمحات من سيرة العشرة: محمد بن عبد الوهاب، مدحت باشا، جمال الدين الأفغاني، أحمد خان، أمير علي، خير الدين التونسي، علي مبارك، عبد الله النديم، عبد الرحمن الكواكبي، محمد عبده، الذين يعتبرهم زعماء الإصلاح.

وبذلك يمكن أن تكون مسيرة الإسلام- بحسب قراءة أحمد أمين، حتى منتصف القرن العشرين- هكذا: أربعة قرون من صعود حتى كاد أن يكون "سيد العالم"، تعقبها ثمانية قرون من الهزال، ثم نحو قرنين من محاولات الإصلاح.

من المصلحين العشرة الذين تتنوع مشاربهم وأوطانهم؛ حيث نجد بينهم سياسياً عثمانياً، ورجلين من الهند، واحد فقط يمكن ملاحظة نفاذية دعوته وتعاظم تأثيرها واستمرارها حتى اللحظة، وهو ابن عبد الوهاب (1703-1791)، الذي يضعه الكاتب كأول زعماء الإصلاح، فقد حدد بداية تلك المحاولات الإصلاحية بدعوة "الموحدين"، وهي التسمية التي كان أتباعه يطلقونها على أنفسهم، ويريدون أن مخالفيهم "مشركون" في حين كان أعدائهم يتهكمون عليهم ويطلقون على دعوتهم "الوهابية". وبعيداً من التنابذ بالألقاب يبرز، أمين، أن "محمد بن عبدالوهاب (كان)، ومن نحا نحوه، يرون أن ضعف المسلمين وسقوط نفسيتهم ليس له من سبب إلا العقيدة"، وأن صلاح حالهم يستوجب العودة إلى "الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته"، فالمجتمعات المعاصرة كانت بحسب رؤية "الشيخ" قد نسيت أهم ما يميز الإسلام، ألا وهو التوحيد. وأتباعه يرون "أن ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنتشر فيها البدع، ليست ممالك إسلامية".

ويتتبع، أمين، انتشار الدعوة الوهابية خارج الحجاز والجزيرة العربية، في اليمن (الإمام  الشوكاني) وفي شمال أفريقيا (السنوسية)، لكن أهم تأثير سيكون في الهند حيث تختلط الدعوة بالسعي للتحرر من الاحتلال البريطاني فقد "قام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد. حج سنة 1822، وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانه يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حربا عوانا على البدع والخرافات. وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك. وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب، ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة  شاقة من اتباعه، حتى استطاعت إخضاعهم".

من ذلك "المناخ" الملتبس في شرقي آسيا عموماً، وفي الهند خصوصاً، حيث كانت تلك البقاع هي الأسبق في السقوط تحت نير الإستعمار الأوروبي، ستكتسب المنابع الوهابية طاقة حديثة مع كتابات أبو الأعلى المودودي، خصوصاً كتابه "المصطلحات الأربعة في القرآن"، الصادر في العام 1941، والذي يعتبره الكثير من دارسي الحركات الإسلامية المعاصرة الأساس النظري للفكر السلفي الجهادي المتشدد ولأفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير، كما يعتبرونه المصدر الرئيس الذي نهل منه سيد قطب؛ خاصة في كتابه "معالم على الطريق" الصادر في عام 1964، وقد تتابعت من ذلك المسار جميع الأفكار والدعوات والحركات التي ارتكزت على فكرة رئيسية وهي أن من يطلقون على أنفسهم صفة مسلمين هم في الحقيقة غير ذلك لأنهم لا يتبعون في شؤون معاشهم تعاليم الإسلام، وأن عقيدتهم أقرب للجاهلية منها للإسلام.

ومن كتابات المودودي وقطب أنثالت؛ خلال نحو نصف قرن، كتابات عديدة أخذ مؤلفوها هذه الفكرة لمديات أبعد في التكفير والعنف، ومن أبرزها: "رسالة الإيمان" لصالح سرية (1973)، "رفع الالتباس عن ملة من جعله الله إماماً للناس" لجهيمان العتيبي (1978)، "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج (1981)، "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان" لعبد الله عزام (1984)، "الجامع في طلب العلم الشريف"، لسيد إمام الشريف (1993)، "مسائل من فقه الجهاد" لعبد الرحمن العلي، (2004)، "إدارة التوحش"، لمحمد خليل الحكايمة (2007)، "الدار والديار" لحلمي هاشم (2010)، وهي الكتب التي كانت ملهمة لمحاولات انقلاب وقتل وعنف لا حدود لها، بداية من حادثة الكلية الفنية العسكرية في مصر، مرورا باحتلال الحرم المكي، واغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وصولا إلى تنظيمات القاعدة وما ولدته من تنظيمات، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".

هذه، إذاً، كتب عشرة، تقف بإزاء المصلحين العشرة الذين حدثنا أحمد أمين عن محاولاتهم الإصلاحية، وهناك ملاحظة شكلية قد تكتسب دلالة في سياق أوسع، فمن بين المصلحين العشرة هناك ثلاثة مصريين (النديم، مبارك،عبده) في حين أن من بين مؤلفي الكتب العشرة هناك ستة مصريين، وواحد هندي، وسعودي (العتيبي)، وفلسطينيين (سرية، عزام). وفي حين يبدو أن تسعة من هؤلاء المصلحين لم تمض دعواتهم أبعد كثيراً من أعمارهم، فإن ابن عبد الوهاب كان أثره مستمراً، ولا حاجة لكثير من التدقيق لتبيان تأثر مؤلفي الكتب العشرة بأفكار ابن عبد الوهاب التي نجدها مركزة في كتاب "مسائل الجاهلية" الذي طبع أول مرة؛ بتحقيق محمود شكري الألوسي، بالمطبعة السلفية بالقاهرة لصاحبها محب الدين الخطيب، العام 1928، وهو العام الذي أسس فيه حسن البنا جماعة "الإخوان المسلمين"، بعد أربع سنوات من إلغاء "الخلافة الإسلامية" بنهاية الدولة العثمانية.

في تقديم الألوسي تحقيقه للمخطوطة يبرز من بين الأوصاف التي يطلقها على المؤلف (ابن عبد الوهاب) وصف "مجدد الشريعة النبوية"، ويكشف؛ دون قصد بالطبع، بعضا من أسباب فاعلية ذلك الكتاب وتنامي تأثيره وسط مجتمعات طال شعورها بأزمتها، التي قاربت ألف عام، جراء فقدان مكانة تؤمن أنها موعودة بها بصورة مطلقة، فيذكر أن: "مسائل تلك الرسالة في غاية الإيجاز، بل كادت تعد من قبيل الألغاز، قد عبر عن كثير منها بعبارة مجملة، وأتى فيها بدلائل ليست مشروحة ولا مفصلة، حتى إن من ينظرها يظن أنها فهرس كتاب، قد عدت فيها المسائل من غير فصول ولا أبواب"، وهي بالفعل آشبه بدليل عمل، بمشروع بحثي يقدم "فرضيات"، لكنه لا ينشغل كثيرا بالإثبات "العقلي" لها، فكل ما يستعين به يأتي من مخزون "نقلي" دون تأويل أو تفسير. فيذكر أن كلماته "مما لا غناء لمسلم عن معرفتها"، أي أن ما لا يعرفها "كافر" وأنها متعلقة بـ "إيمان القلب"، وأن مخالفتها تسوتجب "العداوة.. ولأجلها شرع الجهاد (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه)".

بعد عامين من نشر "مسائل الجاهلية" وتأسيس "الإخوان المسلمين" ورد للشيخ رشيد رضا رسالة من "الشيخ محمد بسيوني عمران- إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوه)" يقترح فيه على شكيب أرسلان "أمير البيان" أن يكتب لجملة  "المنار" مقالًا يرد فيه على سؤالين: الأول: "ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو) من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معًا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه عزيز، وإن كان ذليلًا مهانًا ليس عنده شيء من أسباب العزة إلا أن الله تعالى قال: وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. والثاني: "ما الأسباب التي ارتقى بها الأوروبيون والأميركانيون واليابانيون ارتقاءً هائلًا؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم «الإسلام» أم لا؟"، وقد أجاب أرسلان على السؤالين ونشر الإجابة في "المنار" مسلسلا، ثم نشرها في كتاب حمل عنوان "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟".

السؤال عن أحوال المسلمين والبحث عن توصيف لها مطروح، إذا، منذ منتصف القرن الثامن عشر، قدم ابن عبد الوهاب إجابة تضعهم جميعا-  عدا من يؤمن  بدعوته- في خانة الكفر وتدعو أتباعه للجهاد، وتعتبر العالم كله قد عاد إلى "الجاهلية"، البنا ظل عشرين عاما يعمل ليس فقط كي يعود المسلمون إلى القرن الرابع؛ إلى اللحظة التي كانوا فيها يكادون أن يكونوا "سادة العالم"، بل سعي إلى تجاوز "الكاد" هذه، وصولا للحظة البعثة النبوية، ثم جزم سيد قطب؛ بعد نحو عقدين من اغتيال البنا، بأن العالم على "حافة الهاوية" وأن "الفناء معلق علي رأس البشرية"، وأنه لا بد من قيادة جديدة لها، وأن "الإسلام والأمة هما المؤهلان للقيادة"، بشرط إعادة وجود أمة الإسلام لأن وجودها قد انقطع منذ قرون".

ومنذ طرح الشيخ عمران "إمام مهراجا" سؤاليه وأجاب عليهما أمير البيان، طُرحت أسئلة مقاربة، وقدمت مئات الإجابات، إجابات شديدة التناقض في ما بينها، طرحها عسكريون ومدنيون ومفكرون وإصلاحيون ورجال دين، فهناك إلى جانب إجابة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما انسال منها من إجابات، إجابات أخرى، منها أفكار القوميين العرب؛ خصوصاً حزب البعث العربي الاشتراكي، والناصرية، وهي كانت في وقت تعتبر إجابة على جانب من السؤال متعلق بالعرب، ولدى الاشتراكيين والشيوعيين والدعاة إلى علمنة الدولة والمجتمع واطلاق الحريات الفردية والعامة إجابات بدورهم، لكنهم جميعا انطلقوا في طرح إجاباتهم من تصوراتهم الخاصة للواقع، والمقارنة بين حال المسلمين وحال الآخر (الغرب أساسا)، وليس انطلاقاً من تصورات الآخر وضغوطه، تلك الضغوط التى زادت بشدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، فمنذ تلك اللحظة بات السؤال عن أحوال المسلمين يخص العالم، وأضحى تجديد الخطاب الديني (الإسلامي) مطلباً "عالمياً" ملحاً لكل من يريد درء إتهام "الإسلام" بالمسؤولية عن الإرهاب، وسرعان ما تعزز المطلب بقوة بالمشروع الأميركي الذي سمي "الشرق الأوسط الجديد"، ذلك التصور الذي أقلق الكثير من أنظمة الحكم في الدول "الإسلامية"، فحدث على سبيل المثال في ربيع وصيف 2003 أن دارت، وبوتيرة متسارعة، ماكينة "التجديد" المصرية بكل طاقتها: البرلمانية والحكومية، وألوانها: الدينية والثقافية، لكن ماكينة الأزهر دارت ببطء لافت فأصدر شيخه- محمد سيد طنطاوي- كتيبا صغير كملحق لمجلة "الأزهر" حمل عنوان "الخطاب الديني وكيف يكون؟!"، في حين كانت أميركا تندفع إلى غزو العراق ما عزز من جاذبية كل الطروحات الجهادية.

واضح، أن الحديث عن وجود "أزمة" طرح مرات عديدة قبل تأثيرات 11 سبتمبر، وما أعقبها خلال عقدين من وقائع متصلة به، وأن الإجابات متنوعة، لكن يبدو أنها جميعا لم تفض إلى واقع مغاير، بل زادت الأسئلة عمقا وانتشارا حتى نطق ماكرون بهذه الكلمات: "الإسلام ديانة تعيش في أزمة في أنحاء العالم؛ ليس فقط في فرنسا، وهي أزمة عميقة، مرتبطة بتجاذب بين عدد من الأصوليات، ومشاريع ذات طبيعة سياسية ودينية. وكما شهدنا عبر العالم، هذا النوع من التجاذب يؤدي إلى التشدد؛ بما في ذلك داخل البلدان الإسلامية"، فصدمت كلماته- ويا للعجب- الكثيرين، وهو ما يحتاج لبحث أكثر تفصيلاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024