رأيت الميدان ثانية..

هشام أصلان

الأحد 2019/09/22
 
زميلتي التي أرسلت تسألني بحماسة "إنت في الميدان؟" لم تتجاوز عامها الثالث والعشرين. سألتني أيضًا: "فيه أعداد كتير؟". وأنا، محاولًا التصرف كرجل ناضج، لم أعطها إجابات مقتضبة حاسمة تشبه أسئلتها. حاولت شرح المشهد الذي أراه متقمصًا دور المُتريث في تقييم الأمور، لكنها لم تسايرني الحديث واختفت. على ما يبدو لم تجد لدي ما يوازي حماستها. هي لا تعرف أنني كنت أصطنع التريث مقاومًا شعورًا اختلطت فيه الفرحة بالقلق، للدقة بالخوف. كنت أرتجف نشوة بما رأيت. لا تعرف أنني فكرت كثيرًا في التعبير التي استخدمته فيما استفسرت: "الميدان"، هكذا مجردًا. متى تشكل في وعي الواحد تصورًا بأن مصطلحات ثورة يناير هي حكر على من عاصروها شبابًا؟ اجتهدت في مقاومة ظهور ارتجافتي حتى لا يُقال إنني من الساذجين الذين يتعاملون مع ما يحدث برومانسية، مدفوعين بالنوستالجيا، والمتهمين باستعداد للسير في الطريق الخطأ لإشباع عواطفهم واستعادة أيامهم الجميلة على حساب العقل والمصلحة العامة، مفتقدين لنصاحة الثوار السابقين ممن تجاوزوا رعونة الشباب وامتلأوا بالحكمة والثقة المدهشة في النفس وهم ينظرون بأنصاف أعين وابتسامات ساخرة، مدعين التسلية بتناول "الفشار" والفرجة على ما وصفوه بنتاج "صراع الأجهزة"، محذرين من أن يستخدمك أحدهم.

التعالي والسخرية غير محببين أبدًا. والحكمة المصطنعة افتقدت لإدراك أن تجارب الأجيال لا تشكل وعي الأجيال الأصغر عمرًا. لطالما سخرنا من السابقين وهم يقصون علينا تاريخهم السياسي. لم نقدس مقدساتهم. لطالما اصطدمنا بتابوهاتهم السياسية. ومن كانوا في العاشرة وقت بداية ثورة يناير صاروا شبابًا لديهم وعيهم وعالمهم. الحكمة المصطنعة لبعض الأصدقاء افتقدت لفضيلة التواضع. في مناقشة على فيسبوك، قال لي الصديق نائل الطوخي: "أتمنى يكون فيه ناس بتحب التغيير أكتر ما بتحب دورها في التغيير".

بعدما رد الرئيس المصري على ما قاله محمد علي، ظهر الأخير معلقًا بسرعة على ما قاله الرئيس، قبل أن يخبر متابعيه أنه آن وقت التنفيذ العملي "عشان مش هنقضيها هزار على الفيسبوك"، وقال: "بكرا هقول لكوا الخطة اللي هننفذها"، وقبل أن أتمادى في الضحك العفوي وروح تراكمت عليها سنوات ظالمة والتهمتها العدمية، نبهت نفسي إلى الأحداث سريعًا: "محدش عارف إيه ممكن يحصل". صحيح أن الرعب يتملك الجميع، وآلة القمع نجحت في تسييد الخوف، وصار أي تحرك سياسي مهما كان بسيطًا يعتبر إلقاءً بالنفس في التهلكة، ولكن مهلًا، هذه مشاعر تخصنا نحن، من انكسرت أحلامهم، المُحمّلين بالتجارب السيئة. هناك من لا تزال نفوسهم بكرًا، لم يتعرضوا بعد لما قد يرعبهم، لم يقفوا على شفا تحقيق أحلامهم ليكتشفوا أنهم في خدعة كبيرة. بعض التواضع أمام هؤلاء شيء آدمي.

بالأمس فقط، كسرت بعض أسماء النخبة الثقافية الحاجز النفسي الخاضع لوجوب التعالي على شعبوية محمد علي وتاريخه في العمل مع الدولة الذي لم ينكره، وتجرأت على التعبير بصراحة عما استطاع فعله، ليس فقط في التحفيز الجماهيري بخطاب بسيط وكاريزما تشبه كاريزما العاديين، ولكن بذكاء فطري في وضع أفكار حقيقية صيغت من دون فذلكة ثقافية. وصفه الروائي علاء الأسواني بـ"الزعيم الشعبي"، وكتب أستاذ التاريخ المعروف خالد فهمي تدوينة طويلة حلل فيها كيف "قال محمد علي كلام مهم جدًا، وقدم أفكار ورؤى غاية في الأهمية عن تخيله للخروج من المستنقع اللي إحنا فيه من 70 سنة"، وكيف أنه "من أول فيديو لامس وتر حساس يعبر فيه عن قضايا ملمسة مع الناس بطريقة فشلت كل نخبنا السياسية والثقافية في تحقيقه".

زميلتي التي أرسلت تسألني عن أحوال "الميدان" لا تعرف شعوري لحظة دخلته مساء الجمعة، ربما أنني شخصيًا لا أستطيع تحديد شعوري. هذا ميدان التحرير ثانية، دخلته بصعوبة من ناحية شارع محمد محمود، كان مزدحمًا بخليط من جمهور وأفراد أمن يبدو عليهم هدوء لم يمنع مشهدا أو اثنين للقبض على البعض، والذين يعرفون التحرير يفرقون جيدًا بين أنواع الزحام في دائرته، يستنشقون هذا عن بُعد. قطعت الميدان حتى شارع طلعت حرب، حيث أصحاب المحلات يحاولون إقناع الشباب بالذهاب بعيدًا خوفًا على أماكن أكل عيشهم. هم مثلي، يخشون أن تأتي الإعادة بنتائج تشبه النتائج الماضية، الأعداد ليست ضخمة، لكنها الأعداد الكافية لكسر رهبة دخول الميدان سنوات خشينا أن نمر فيه جماعة من مقهى إلى آخر فنواجه بتهمة التجمهر.

في المسافة بين ميدان التحرير وميدان طلعت حرب، وصلتني الهتافات، وبينما أحاول الاقتراب بحذر، رأيت الشباب والفتيات في العشرينات يتراجعون جريًا، بينما البعض ينبه الآخر إلى الشوارع الجانبية الآمنة، قبل أن يحاولوا تجميع أنفسهم لمعاودة السير والهتاف. ومن بعيد سمعت صوت فرقعة لم أتبين إن كانت قنبلة غاز أم طلقة خرطوش أم ماذا، بات صعبًا أن تفرق أذناي بينهما بسهولة بعد كل هذه السنوات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024