رشا الأطرش
الإجابات على أسئلة الفن الناشط، قد لا تكون سهلة، إذ يعيقه في لبنان عاملان: الأول، هو غياب وتعطيل ومحاصرة السلطة، وبنجاح كبير، لمفاصل الاحتكام والمحاسبة وأبسط الآليات الديموقراطية التي تجعل للشعب أي وزن، لا سيما القضاء، إضافة إلى النظام السياسي الطائفي والزبائني والمحاصصاتي نفسه، ومعه الثقافة السياسية الهوياتية والجماعاتية. ولربما كان في الإمكان تجاوز هذا العامل، وجعل القضاء مشمولاً ببوتقة السلطة المطلوب إسقاطها وتنظيفها، لولا العامل الثاني، أي انكماش الحوامل السياسية والشعبية إلى الحد الذي يحصرها في التظاهرات في الشوارع أو أمام مقرات الرئاسات الثلاث، ليُطبق سقفها على رؤوس شبانها وشاباتها بقمع القوى الأمنية والاعتقالات والاستدعاءات الأمنية للناشطين، وفي أحسن الأحوال تُواجَه بالتجاهل أو بالعبارة الاحتيالية الشهيرة: "فهمتكم.. ومطلبكم مطلبي".
الإبداع الاحتجاجي، بالتعريف، هو العمل على التحريك العاطفي في سياق خطة أو استراتيجيا تحيل الفن نشاطاً سياسياً يفضي إلى نتيجة ما، إلى تغيير ولو صغير وتراكمي، قشة فوق قشة. نقطة الارتكاز لفنون الأزمات، والثقافة في مواجهة الاستعصاء والظلم، غالباً ما ترمي إلى تكوين وعي ما، وتوسيع دوائره، تبديل السائد، اختراق المهيمن، التشبيك مع الرأي العام، تسلل الأفكار الجديدة عبر اليوميات إلى الوجدان الجمعي. يفترض أن الفن، في مثل الحالات القيامية التي يعيشها اللبنانيون، وحين يختار الانحياز إلى الشعب والمصلحة العامة، ضد عصبة الاستبداد والفساد الحاكمة، يقدم الواقع أو الحقيقة المُعاشة بالطريقة التي يعتقد أنها ستبدّل رؤية ومنظور الجمهور اتجاه أحوالهم والعالم من حولهم. الفن، ههنا، يُتوقّع أن يكون المحفّز على فرز الحقائق عن الادعاءات، ثم يمزجها بالخيال لخلق معنى طازج، لإبداع خيال سياسي جديد. والأرجح أن هذا ما ينجح فيه الآن "المواطن الفنان" (اقتباساً من "المواطن الصحافي") أكثر من "الفنان الفنان"، لا سيما في الإبداع البديل المتداول عبر شبكات التواصل الاجتماعي، من ملصقات و"ميمز" وتراكيب الصور والفيديوهات وحتى الشتائم، لا سيما تلك التي تهشّم هالات القدسية والرعب فوق رأس هذا "السيد" وذاك "الفخامة"، وهذه تقنية التحوير المشهود لها.
ومع ذلك، ورغم إنجازات التكسير هذه، يبقى المُنجز العام في إطار التنفيس و"فشّة الخلق". فالوعي العام ضد هذه السلطة، بل كرهها واحتقارها والرغبة في التخلص منها، مُحقّق. التعاطف مع الضحايا، والتماهي معهم بالكامل، مُحقّق. تأثر الجميع بالنكبة والدخان، إن لم يكن بالنيران المباشرة للانفجار (حرفياً ومجازاً)، مُحقّق. والشعور بأن الدور آت لا محالة على مَن لم يُصب هذه المرةُ متحقّق. الغضب في أقصاه، في كل مكان، وكل طائفة، وكل منطقة، رغم شبيحة بزيّ رسمي و"الأهالي" من عصابات الدراجات النارية. حتى انتشار الخطاب المضاد للسلطة ونظامها، متحقق، بل وتشارك فيه منصات المتن الإعلامي (تتفوق "أم تي في" بالأفكار وفنّياتها)، وحتى حين يمسي النفَس الثوري خياراً متعلقاً بالـ"راتنغ" (ثم يُعوَّض الشّقاق مع المافيا الحاكمة بمثل مقال نشره موقع "ام تي في" بعنوان "هل حان وقت إعادة الأموال الموجودة في المنازل إلى المصارف؟")، فلا بأس ببعض البراغماتية هنا من أجل نتيجة أبعد. لكن، في المحصلة، ما المأمول من التبشير بين مؤمنين؟
اللبنانيون غداً، على موعد مع حدثَين: تظاهرة أمام قصر بعبدا للقول لميشال عون "قصر الشعب مش ملكك"، وأمسية فنية من انتاج "ال بي سي" ستقام عند مرفأ بيروت المحترق للمرة الثالثة على التوالي (مع أدلة مسرح الجريمة ومساعدات عينية للمتضررين)، وستبثها بقية التلفزيونات ومن بينها "تلفزيون لبنان" الرسمي. فلنتخيل احتمال تنسيق ما بين الحدثين يدمجهما، ولو كمفاجأة لرعاة فنون الأحزان المجانية...