أطفال لم يعانقهم ماكرون

رشا الأطرش

الأربعاء 2020/09/09
بعد السياسة والاقتصاد، وربما بموازاتهما، ثمة بُعد ثقافي للالتفاتة أو المبادرة الفرنسية اتجاه لبنان، والتي يرمقها البعض بعَين الريبة، إذ أنها، في رأيهم، تعوّم الطبقة السياسية التقليدية في الحُكم (وكأنها كانت تغرق)، وتسعى إلى "التطبيع" مع "حزب الله" (وكأن عزلته كانت كاملة أو تهدد استمراريته وقبضته على عنق البلد). فيما يذهب آخرون إلى استنكار "التدخل الامبريالي" في الشأن الداخلي، أو يعبّرون عن خيبة وخذلان وكأنهم كانوا ينتظرون أن يأتي ايمانويل ماكرون ليضرب بسيف ثورة تشرين، هكذا مجاناً وحبّاً في لبنان واللبنانيين، وبكثير من نكران الذات وتنحية مصالح بلاده وعهده والانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة.

ومن دون الانزلاق إلى تحليل سياسي صرف، تغصّ به منصات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن التأمل قليلاً في زيارتي ماكرون إلى لبنان خلال شهر واحد من انفجار مرفأ بيروت، يتيح استعادة لقطات مفتاحية، بعد تنحية الأجندة الفرنسية جانباً. لقطات تُخبر الكثير عن الثقافة اللبنانية السائدة، سواء في ما يتعلق بإدارة الشأن العام أو الاشتباك معه، وهو المَصيري الآن والأكثر تأزماً منذ ولادة الجمهورية، أو ما يرتبط منها بالتركيبة الاجتماعية النفسية المهيمن خطابُها على السردية المحلية.

أولاً، الرموز الاجتماعية. فمنذ جولة ماكرون الأولى في الجميزة، وصولاً إلى حفلات الاستقبال في ختام الزيارة الثانية، بدا العناق سيّد الصورة. دموع وحنان اندلق أحياناً على حافة الابتذال. عناق الناس في الشارع، وإيقافهم الرئيس الفرنسي للشكوى، وأخيراً عناق الفنانة ماجدة الرومي. ظهر المزاج اللبناني العام، أقرب إلى الطفولي، بالمعنى الذي قد يستخدمه محللون نفسيون. الشعب المكلوم في حاجة إلى رعاية، رعاية شخص راشد ومُدرِك. في حاجة إلى عاطفة الرعاية، قبل مساعداتها وإغاثاتها وخرائط طريق الحل. كأن الجوّ هو جوّ قاصرين، محرومين من الحب، من القبول، من التعاطف ومَن يمسك بيدهم ويعبر بهم إلى برّ الأمان. الحاجة هنا إلى حنان أبٍ بديل لـ"بيّ الكل"، قبل استقطابهم آلية انتشال عربية ودولية ومفاوضتها كبالغين قادرين على مناصرة قضاياهم – أقلّه من منظورهم لأنفسهم. بدوا بحاجة إلى قائد مُخلِّص أو نبيّ، بدلاً من قيادة السياسة والاقتصاد والإدارة بامتلاك رؤية للحاضر والمستقبل. وهذا ليس وليد ساعته، ولم يسببه الانفجار وحده، ولا ينحصر تراكمه في تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية منذ أكثر من سنة، وإن كانت الخلفية هذه هي الصاعق المفجّر لتلك اللحظات الشعورية في خضم الدمار والانهيار والإفلاس. ثمة ما يوحي بأن هذا هو التكوين النفسي للوعي السياسي العام، إن جاز التعبير، وأنه لم يفعل سوى التعبير عن نفسه بمزيد من الوضوح بمجرد الارتطام بقعر لبناني جديد ممثَّلاً في انفجار 4 آب.

ثانياً، الصحافة، ومعها النظرة إلى الموزاييك اللبناني الداخلي، وعلاقتها بهذا الزائر/الوسيط، الراشد العليم. والمقصود نظرة ماكرون لهذا الداخل، ونظرة اللبنانيين له، في ظل المبادرة الفرنسية. بدأ الأمر، وفي أكثر من مؤتمر صحافي للرئيس الفرنسي، بأسئلة غريبة عجيبة طرحها عليه عدد من الصحافيين اللبنانيين. أسئلة تلامذة المدرسة إذ يقصدون الناظر للوشاية بمجموعة متنمّرين في الملعب. ما دفع ماكرون، أكثر من مرة، وأحياناً بانفعال، إلى التذكير ببداهة أنه ليس هو من انتخب ممثلي اللبنانيين في الحُكم، ولا هو من صنَع أو مارس آليات انتاج السلطة.

وفي المقابل، هناك حفلة التوبيخ العلني الذي أمطَر به ماكرون، الصحافي (الفريلانس) جورج مالبرونو بعد مقالته في "لوفيغارو" عن لقاء خاص جمع الرئيس الفرنسي مع نواب "حزب الله"، وتلويحه بالعقوبات في حال لم يستقم المسؤولون اللبنانيون في طريق الإصلاحات المطلوبة. ولما قرّع ماكرون، مالبرونو، على مرأى ومسمع من صحافيين ومرافقين، تحدث عن "حساسية الموضوع"، و"ما تعرفه من تاريخ هذا البلد"، وقال: "لطالما دافعتُ عن الصحافيين... لكن ما فعلتَه هو عمل خطير". الإعلام الفرنسي، من جهته، نشر فيديو للحادثة، واستهجن غضبة مسؤول على صحافي، معتبراً إنها سقطة ليست في صالح ماكرون، متحفظاً أيضاً على اعتماد مالبرونو في مقاله على مصادر بلا أسماء. وفي الجهة المقابِلة، رأى الصحافيون اللبنانيون، رئيساً فرنسياً يقارع صحافياً فرنسياً كندٍّ، كمراقب مؤثر في عمله السياسي والرئاسي، وبسقف أقصاه كلامي قد يدفع الرئيس ثمنه، لا الصحافي، ولو بعد تأكيد دفاعه عن حرية التعبير، ولو لاذ بمنطق المقال وسياقات العملية السياسية التي يقودها. لم يلجأ إلى التهديد والوعيد، ولا المنع والإسكات والملاحقة الأمنية. لم تبدُ أسبابه المعلنة متعلقة بمقام أو طائفة أو دولة صديقة تم "المسّ بها"، ولا رد فعل على رأي مغاير، أو فضح تضعه دولة الفساد والمحاصصة في خانة القدح والذم والتشهير وأحياناً العَمالة لأجهزة خارجية.

ثالثاً، والأهم، الثقافة السياسية. فخطاب منتقدي الانخراط الماكروني يخبرنا بما علينا رفضه، وهذا مفيد، لكن ماذا عما علينا تأييده واستثماره لصالح مطالب الناس؟ يخبرنا بأمنيتنا جميعاً، أي إسقاط العصابة المهيمنة على الحكم، لكن كيف، بعدما فشل حراك الشارع؟ وكيف نقطع ولو بعض مجسات الأخطبوط، في ظل حراك ماكرون راهناً؟ ثقافة الخطاب السياسي هذا، تتجمّد عند تلاشي صوت الصافرة التحذيرية المُراقِبة، وهي مطلوبة، لكنها لا تصنع البديل الذي يصعب تجاهله. وبأثر من انقسامات وخلافات وإيديولوجيات وثارات قديمة متجددة، لم تتمكن المعارضة ومجموعات الثورة اللبنانية من تسمية رئيس حكومة يمثلها، إسم يُرفع في وجه مصطفى أديب ويُفرض في دائرة التداول مع بقية اللاعبين. تارة لأن أصحاب الأسماء رفضوا أو خافوا احتراقهم، وطوراً لأن ممثلي المجموعات الثائرة لم يتوصلوا لاتفاق يعلنونه مع الورقة السياسية والاقتصادية، ولو حتى على صعيد عشرين مجموعة من أصل أكثر من مئة.

وهناك التفكير الوطنجي في السياسة، أي أن كل ما يأتي من الخارج، وتحديداً من الغرب، حتميّ النزعة الاحتلالية والإملائية، في مواجهة الوطنجي المقلوب الذي يريد استبدال الاحتلال الوطني بانتداب جديد. ويتجلى أيضاً التفكير الطاهر المُنزّه، الذي لا يصمد في وحول الواقع، بدلاً من التفكير السياسي في السياسة بكل ما يجب أن يختزنه من براغماتية ولعب على التناقضات لتمرير مكاسب تراكمية على طريقة "خُذ وطالِب". فكأن المافيا اللبنانية الحاكمة، بكل فسادها وطائفيتها وجرائمها، تجيد السياسة أكثر من شباب الشارع ومخضرميه.

الكثير مما يسوقه منتقدو ماكرون لا يخلو من وجاهة، لا سيما الإضاءة على المكتسبات التي تُرجّح نيّته بتحقيقها من مغامرته في لبنان. لكن ماكرون ليس قاضياً ليُنصف المظلوم، ولا مؤسسة خيرية تعطف على المسكين. هو سياسي ويشتغل هنا سياسة خارجية. وهو أيضاً أول غيث دولي محتمل.. ومطلوب! فإن تقاطعت مصالح له، والرقابة والمأسسة الناتجة عنها، مع مطالب إصلاحية وإنقاذية، فهل تُرفَض بالمطلق؟ وبعدما لمسنا بأيدينا، عُقم ديناميات التغيير السّلمي من الداخل، كيف نجعل أجندته تعمل لصالحنا، ولو جزئياً؟ بالانكفاء التطهري، والدلالة بالإصبع على "انتهازية" الرجل؟ أم بتحريك بيادق 17 تشرين على الرقعة الموسّعة الآن؟ الانتهازية كلمة تصلح لمعاتبات الصداقة والزمالة. التفكير السياسي في السياسة، مفرداته استراتيجيات وتكتيكات. ثقافة سياسة "لن تمروا" هذه، تفضي إلى "ضَبَطنا ماكرون متلبساً بطموحاته في لبنان": استثمار المرفأ المعاد إعماره، التنافس مع تركيا، شراء وتشغيل أصول للدولة... المعلومات مهمة، تُبنى عليها استراتيجيات مراقبة، لكنها ليست سياسة، اللهم إلا إذا كنا الأطفال الذين لم يعانق ماكرون أحلامهم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024