نتنياهو إذ يلعب دور العرّافة

أسعد قطّان

الأحد 2020/10/04
ثمّة مصادفات تجري في لبنان لا يقوى على تفسيرها إلاّ السيّد ميشال حايك أو السيّدة ليلى عبد اللطيف. ملف ترسيم الحدود، الذي أقرّ الرئيس نبيه برّي بأنّه كان في حوزته طوال عقد من السنين، تحرّك اليوم. الرئيس برّي أكّد أنّ العمل على رسم الإطار انتهى في تمّوز الماضي.

ولكنّ المصادفة تكمن في أنّه لم يخرج إلى النور سوى بعد مجموعة من الأحداث التي يبدو أنّها أيضاً وقعت بالصدفة: انفجار المرفأ، العقوبات الأميركيّة على وزيرين بتهمة تسهيل أمور حزب الله، انفجار عين قانا، الذي مرّ وكأنّه لم يكن، وكلام السيّد نتنياهو عن أماكن لتصنيع الأسلحة، وربّما لتخزينها، في الضاحية الجنوبيّة وعلى مقربة منها. وإذا بملف الترسيم يخرج كالأرنب من قبّعة الرئيس برّي ويوضع على الطاولة ويُعهد به إلى السلطة التنفيذيّة والجيش اللبنانيّ. واللافت أنّ الكلّ يثق بهذا الجيش. فالأميركيّون يعتبرونه عامل توازن بإزاء سلاح حزب الله. والسيّد حسن نصرالله يشيد بقيادته الوطنيّة. والرئيس برّي يعلن أنّه ليس أكثر حرصاً من الآخرين، بمن فيهم الجيش، على ما يفترض الجميع أن يتفجّر من رحم البحر من نفط وغاز. إنّها، والحقّ يقال، سلسلة من الصدف يقف المحلّل حائراً حيالها. ثمّ، بعد تفكير عميق، يعترف بعجزه عن إيجاد خيط يربط كلّ هذه الأحداث ويقيه اللجوء إلى المنجّمين ولو كذبوا.


من الجدير أن نتمعّن قليلاً في كلام رئيس وزراء العدوّ. حين تحدّث عن الأسلحة الدقيقة وادّعى أنّه يعرف أماكن تصنيعها وتخزينها، كان كمن يمارس العرافة على طريقة السيّد حايك والسيّدة عبد اللطيف. عرّج على المرفأ وعين قانا، ثمّ تنبّأ بإمكان حصول انفجارات كبرى في الضاحية الجنوبيّة حيث الاكتظاظ السكّانيّ وحيث حاضنة حزب الله الشعبيّة. كان يهدّد طبعاً. ولكنّه غلّف التهديد بغطاء التحذير وكأنّه حريص على أمننا واقتصادنا ومطارنا ومائنا وهوائنا. السؤال عن ضلوع إسرائيل، أو عدم ضلوعها، في جريمة المرفأ على جانب كبير من الأهمّيّة طبعاً. غير أنّه في سياق كلام نتنياهو لا معنى له. فالمهمّ في القضيّة أن سيناريو انفجار مرفأ بيروت يتحوّل إلى رمز، أو إلى استعارة كبرى يتأسّس معناها على ما لم يحدث بعد، وذلك عبر استباقها لحدث أبوكاليبتيكيّ ربّما لم تكن كارثة المرفأ سوى مجرّد «بروفا» باهتة له، هذا إذا أردنا أن نمعن في السخرية السوداء. ومن ثمّ، فإنّ المبارزة بين حزب الله ونتنياهو حول مدى صدقيّة كلام الأخير، والاستعراض المسرحيّ الذي قام به الحزب بمجرّد أن تفوّه رئيس وزراء إسرائيل بنبوءته، كلّ هذا يصبح خارج السياق. فالمسألة ليست إذا كان نتنياهو كاذباً أو صادقاً بالنسبة إلى مصانع الأسلحة ومخازنها، بل المسألة هي أنّ انفجار المرفأ يضفي على تهديده صبغة الحقيقة قبل حدوثها. فرغم كلّ المجاز ورغم كلّ الإحالات اللغويّة، انفجار المرفأ لم يكن لا رمزاً ولا استعارة، بل هو حقيقة في حجم دمار مدينة تبحث منذ تفجّرها عن بقايا أبنائها، وعن ذاتها، بين أنقاض الشوارع وفي ما يلفظه الموج من حطام.


إنّه، ولا شكّ، زمن المصادفات الكبرى التي تحتاج إلى تمعّن كثير وتفكّر عميق كي نسبر أغوارها ونستقصي معانيها، هذا إذا تسنّى لنا بعد اليوم أن نلملم فتات المعنى الذي تشظّى يوم انفجرت بيروت وتحوّل مرفأها إلى يباب. فإذا فشلنا، لم يبقَ لنا سوى اللجوء إلى ميشال حايك وليلى عبد اللطيف حيث تمّحي الحدود بين الواقع والخيال وتتحوّل الحقيقة الكبرى إلى سلسلة لا تنتهي من المصادفات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024