الدين بين الحقيقة والخرافة

أسعد قطّان

الأحد 2021/01/10
يحدّد معجم «المنجد في اللغة العربيّة المعاصرة» الخرافة على أنّها «بنيان فكريّ لا يستند إلى أساس من الحقيقة والواقع». وتشتقّ اللفظة من فعل خَرِف الذي يدلّ على الإتيان «بكلام ينكره العقل». ينتج من هذا أنّ الخرافة هي في تناقض مع معطيين هما العقل والحقيقة. وينطوي تحديد المعجم هذا على فرضيّة لا يُعبَّر عنها صراحةً هي أنّ العقل هو واحد من المعايير التي يمكننا الاستنجاد بها كي نتلمّس ما هو حقيقيّ فعلاً.

ولكنّ الحقيقة لا تتماهى مع ما نستطيع مشاهدته أو رصده بالحواسّ. فثمّة حقائق تتخطّى قدرة الحواسّ على رصدها. ولا يندر أن يكون ما ندركه بالحواسّ خادعاً ولا يشتمل على حقيقة، بل على باطل، حتّى ولو اتّخذ هذا الذي ندركه «مظهر» الحقيقة. ولكنّ الثابت أنّ الحقيقة لا تستطيع أن تكون مناقضةً للعقل. فإذا كان هناك أمر يناقض العقل، تعيّن علينا أن نقذف به إلى دائرة الخرافة.

هل يُستدلّ من هذا أنّ المعتقدات والأفكار والمقولات التي راكمتها الأديان عبر العصور هي من باب الخرافة؟ طبعاً لا، لأنّ هناك عمليّةً فكريّةً على جانب كبير من الأهمّيّة يجب أن نقوم بها، وهي تتلخّص في التمييز بين ما «يناقض» العقل وما «يتخطّى» العقل. ثمّة خبرات كثيرة في حياتنا، وخبرة الإيمان هي واحدة منها بلا شكّ، لا نستطيع تفسير كلّ جوانبها عقليّاً، بمعنى أنّها تتجاوز العمليّات التي يقوم بها العقل في العادة كالاستنتاج والاستقراء والتحليل والتقصّي المخبريّ. ولكنّها ليست في حال تناقض مع العقل، ولذا نطلق عليها في العلوم الإنسانيّة مصطلح «ميتا-عقلّي»، أي ما يتخطّى العقل أو يتجاوزه. غير أنّ هذه الخبرات ليست مخالفةً للعقل ولا هي في تضادّ معه. وإذا ثبت أنّها تنافي العقل، أو إذا ثبتت قدرته على دحضها، كان لا بدّ من تصنيفها في باب الخرافة، لا في باب الحقيقة.

والحقّ أنّ إشكاليّة الاختلاف بين ما هو «ميتا-عقليّ» وما هو «لا-عقليّ» تجعل الدين في علاقة توتّر دائم مع العقل ومع العلم، وهو بالتأكيد أبرز منتجات العقل البشريّ وأعمقها تأثيراً في حياتنا.  ولكنّ هذا التوتّر هو، في نهاية المطاف، توتّر خلاّق وضروريّ، لا لأنّه يساعد الدين على تشذيب ذاته وتحرير العمارات الدينيّة من الخرافات فحسب، بل لأنّه يستحثّ العلم أيضاً على معاودة طرح السؤال عن «حدوده»، أي عن الحقول التي تقع، أو لا تقع، ضمن اختصاصه. فالأكيد، مثلاً، أنّ العلم يستطيع تزويدنا بمعطيات تعيننا على إطلاق أحكام أخلاقيّة. ولكنّ هذه الأحكام لا تُستمدّ من العلم حصراً، بل تقتضي تبصّراً إنسانيّاً يتخطّى مقدّمات العلم ومناهجه.

لقد أعاد وباء كورونا طرح السؤال عن العلاقة بين الدين والخرافة في الربع الأوّل من القرن الواحد والعشرين على نحو لم يكن يتوقّعه أحد. فظهور الوباء أدّى إلى انتعاش عدد من الخرافات المرتبطة بالدين، ولا سيّما تلك القائلة بقدرة البشر على التأثير في الأولياء والقدّيسين طمعاً في الحصول على الشفاء من خارج منطق الطبّ. فضلاً عن ذلك، أعادت الجائحة إلى الأذهان التوتّر القديم بين العقل والدين، وهذا أمر طبيعيّ. بيد أنّ هذا التوتّر كثيراً ما جرى تأويله لا من حيث أنّه ديناميّة خلاّقة لكلا الطرفين، بل بوصفه تناقضاً. فإذا كنت من مناصري العلم والطبّ، أصبحت بالضرورة من خصوم الدين، حتّى إذا كنت مجرّد خصم لخرافات يروّج لها بعض القادة والدعاة الدينيّين. وإذا كنت من مؤيّدي الدين، صرت من أعداء العلم، حتّى ولو كنت مجرّد مدافع عن الرأي القائل بعدم صلاحيّة العلم للبتّ في الأمور الإيمانيّة والأخلاقيّة.

من «الخرافات» التي نجدها منتشرةً في أوساطنا القولُ بأنّ الله يبارك الصدّيقين في هذه الحياة الدنيا ويسبغ عليهم الصحّة والازدهار، ويعاقب الأشرار فيحجب عنهم الصحّة ويمنع عنهم الخيرات. طبعاً نحن هنا مع «خرافة» من العيار الثقيل لكونها تستند إلى مقاطع عدّة في التوراة والإنجيل والقرآن وكتب دينيّة أخرى. من النافل القول إنّ مثل هذا الاعتقاد غالباً ما يتعارض والخبرة البشريّة التي تجد الأشرار يزدهرون والصدّيقين يتألّمون. والحقّ أنّنا نعثر على أصداء لهذه الخبرة في الكتب الدينيّة المقدّسة ذاتها. فكثير من أنبياء التوراة، مثلاّ، «يحتجّون» على الله لأنّه يسمح بغلبة المنافقين وهزيمة الأبرار. فضلاً عن ذلك، من السذاجة بمكان القول إنّ الحروب والأمراض والجوائح هي عقاب يرسله الله للاقتصاص من الأشرار والطغاة. فهؤلاء غالباً ما يكونون الأقوى مجتمعيّاً والأقلّ تعرّضاً للكوارث مقارنةً بالضعفاء والفقراء.


لئن كانت الكتب الدينيّة المقدّسة تؤيّد أحياناً فكرة الإله الذي يقتصّ من المنافقين ويبارك الصالحين في هذه الحياة، وذلك تعبيراً عن الإيمان المطلق بعدالته، إلاّ أنّه يجب ألاّ يغيب عن بالنا أنّها تنطوي أيضاً على خطّ آخر لعلّه الأكثر تعبيراً عن حقيقة الله. وهو الخطّ الذي يؤكّد أنّ الله لا يحابي الوجوه، وأنّ موقفه من البشر لا يستند إلى أفعالهم المنفردة أيّاً تكن طبيعتها، بل إلى حكمته التي لا يُسبر غورها والتي تأخذ في الاعتبار الكثير من العوامل التي تغيب عن البشر أو هم لا يتلمّسونها إلاّ جزئيّاً. ربّما تكون جائحة كورونا مناسبةً للإقرار بأنّ هذا الخطّ الثاني هو الأكثر انسجاماً مع صورة الله الحقيقيّة، وأنّ النصوص الدينيّة التي تغلّب الخطّ الأوّل لا بدّ من إعادة تأويلها من حيث أنّها تعبّر أيضاً عن معطىً غاية في الحقيقة هو التوق البشريّ إلى العدالة، ولكن من دون «إسقاط» هذا المعطى على الذات الإلهيّة، فيتحوّل الله بنتيجة ذلك إلى مجرّد شرطيّ وظيفته أن يكافئ الأبرار ويعاقب الأشرار في هذه الحياة القصيرة الأمد. إنّ مقاربةً من هذا النوع لا تنتقص من كون الله هو المرجع الأخير لسلوك الإنسان الأخلاقيّ وصاحب الكلمة الفصل في الحكم على هذا السلوك. ولكن لعلّها تعبّر، إن صحّت، عن إله لا يلعب دور الشرطيّ أو القاضي، بل يريد للإنسان أن ينخرط فعلاً، لا قولاً، في عمليّة تحويل هذا العالم المخلوق إلى مكان أكثر عدلاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024