جورج البهجوري.. الفن "الاستعادي" كمرآة للانغلاق المصري

شريف الشافعي

الجمعة 2021/10/01
بعبارة قصيرة مكثفة، لكنها صارمة ودالة وفاضحة، مثل اسكتشاته الصادمة وبورتريهاته الانسيابية ورسومه الكاريكاتيرية المشحونة بالسخرية والمفارقة، يلخّص التشكيلي ورسّام الكاريكاتير المخضرم جورج البهجوري (1932-)، وهو على مشارف التسعين، أزمة الصحافة المصرية الراهنة، بل أزمة الإعلام كاملًا، والمناخ السائد برمّته، قائلًا في الكتاب الاحتفالي الصادر عنه حديثًا في القاهرة "لقد حدث تراجع في الصحافة. وبحكم هذا التراجع، انتهى فن الكاريكاتير. لم يعد رؤساء تحرير الصحف يهتمون بالرسوم، بالرغم من أن هذا الفن مرتبط بكل شيء في حياة الناس".

ويأتي صدور الكتاب التذكاري "جورج البهجوري بيكاسو الشرق.. 89 عامًا من الفن" (سبتمبر/ أيلول 2021) عن مجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية في القاهرة (مؤسسة الأهرام الصحفية)، لينكأ أكثر من جرح في آن واحد؛ فهو من جهة يعكس بوضوح أن تركيز الضوء على كبار الفنانين المعاصرين في الوقت الحالي هو من باب استدعاء "قديمهم"، في وقت كان فيه الفن فنًّا، والصحافة صحافة، والهواء حرية، وليس من باب مطالعة جديدهم الذي يقدّمونه في هذه اللحظة، فهم في أغلب الأحوال متوقفون عن الإنتاج الفعلي منذ سنوات. وحتى حين تقام لهم معارض، فإنها تكون "استعادية"، على الرغم من أنهم أحياء يُرزقون، كتلك المعارض والغاليريهات "الماضوية" التي استضافت أعمال البهجوري واسكتشاته في القاهرة خلال الفترة الوجيزة المنقضية في قاعات: بيكاسو، ليوان، أوبونتو، مشربية، وغيرها.



من جهة أخرى، فإن كتاب البهجوري، الذي اشترك في تحريره مبدعون ونقّاد وصحافيون بارزون، وتضمّن مقابلة مع الفنان ونماذج ثرية من إبداعاته في مراحله المتلاحقة وثيماته المتنوعة، ينكأ إلى جانب جرح الفن، جراح الصحافة، والإعلام، والحرية، والحياة المصرية في عمومها، وذلك كله تحت مظلة مُفردة واحدة، هي "الاستعادية"، فالعجز عن الفعل يدفع إلى تسويق ما قد حدث من قبل على أنه عنوان لليوم، ويقود إلى وضع الذكريات في موضع الأحداث الجارية، ويؤدي إلى تحنيط القادرين على النبض من العمالقة والعباقرة ليقتصر وهجهم على ما قبل مرحلة غروب الشموس والأقمار، وانعدام الرؤية، وفقدان البوصلة.

بشجاعته ذاتها، التي وسمتْ رسومه الفذة في التشكيل والبورتريهات والكاريكاتير الاجتماعي والسياسي وغيرها من مجالات الإبداع البصري على مدار سنوات طويلة، جاء بوح البهجوري على صفحات الكتاب الصادر لتحيته، فأشار الرسّام الذي طالما عرفته المعارض والغاليريهات والجرائد والمجلات منحازًا للبسطاء محتجًّا على السلبيات والأوضاع السيئة، إلى حقيقة الأزمة المصرية في يومنا الكائن بجسارة، موضحًا أن انتعاش الفنون مقترن بالضرورة بوجود الحرية والجرأة في التعبير، وأن الجمود لا يمكن أن يسمح بأي شيء حوله وفي داخله سوى الجمود، ومن ثم فإن التوقف هو مصير المبدعين، لاسيما في مجال مثل الكاريكاتير، الذي يستحيل أن يجد متنفّسًا بدون فضاء حر وصحافة قوية لها شخصيتها واستقلالها وتسعى إلى أن تكون لسان حال الناس العاديين، الذين ينتمي إليهم البهجوري وأمثاله "أنا شعبي، أحب الأرض. تربيتي كان لها تأثير كبير في حب البسطاء". وقد عمل البهجوري قبل سفره إلى باريس كرسام كاريكاتيري محترف ما بين عامي 1953 و1975 في مجلتي "روز اليوسف" و"صباح الخير" بالقاهرة، في العصر الذهبي للكاريكاتير "فن الجماهير، الذي لا سقف له".



إن "الاستعادية"، التي يرتضيها البهجوري مضطرًّا في معارضه الأخيرة، وفي المناسبات الاحتفائية بفنه، هي مرآة للحالة المصرية ككل، المنغلقة على ذاتها حدّ التشرنق. وإن الموت الإكلينكي للريشة، الذي يشير إليه، يتوازى مع تبدد الطاقة الإشعاعية والابتكارية في الفنون والآداب المتنوعة، وسائر جوانب الإبداع والفكر والمعرفة، المحاصرة بالتضييق والكبت والملاحقة القضائية والتجريم والتخوين، وربما التكفير في بعض الأحيان من جانب التيارات المتشددة والجماعات المتطرفة. وكذلك، فإن ما يرصده من تراجع الصحافة، هو أحد وجوه تخلي الإعلام المصري بسائر أشكاله المكتوبة والمسموعة والمرئية عن صدارته وريادته ومصداقيته ومهنيته، والسبب الأول لذلك أحادية الطرح ونمطيته ومجانيته، والإهدار الكامل للتعددية ووجهات النظر المتباينة.



إن إعلان البهجوري المأساوي الصريح موت الكاريكاتير، وهو ذلك الفن الذكي، المراوغ، القادر في أحلك الظروف على النجاة من الفخاخ التي تُنصب لفنون القول مثلًا، رقابيًّا وقانونيًّا، لهو في حقيقة الأمر أكثر مأساوية وصراحة في تضمّنه تأكيد موت فكرة الإبداع ذاتها، في مهدها، فالتعبير الموجّه أو الخائف لا يصنع إبداعًا محلّقًا بطبيعة الحال. أما الدوران في فلك الاستعادية فهو أمر بالغ البؤس بالنسبة للفنون البصرية، وماذا عن فنون كالمسرح والشعر والقصة والرواية والسينما والدراما التليفزيونية وغيرها، هل ستقتات هي الأخرى على الأوراق القديمة المحفوظة بالأرشيف، أم سيكتفي المبدعون في ما يطرحونه بالمتاح لهم بين القوسين من الإبداع المشروط، بعيدًا عن الخطوط الحمراء، لكي يتفادوا المشاكسة والمواجهة والصدامات والبطش والتنكيل؟

إن الإقرار الحزين بموت الكاريكاتير "فن الحياة"، على لسان البهجوري، أحد أعمدته الراسخين، على ما يحمله هذا الموقف من استسلام للأمر الواقع، يبدو اختيارًا أفضل، أو أقلّ سوءًا، لحفظ ماء الوجه، من ليّ عنق الفن المتمرد، وتكميمه، وتقليم أظافره، وإنتاج فن ممسوخ، مثلما فعل آخرون ممن انزلقوا إلى مجاراة التيار. فمن العبث تصوّر رسوم كاريكاتيرية ذات قيمة، وقد تجرّدت من خصائص الفن الأساسية وأبجدياته القائمة على التندر والمفارقة والتعرية والسخرية والانتقاد والاحتجاج والرفض وفضح السلبيات والانفلات من القيود والاجتراء الهزلي على ما هو جادّ ومحاسبة المسؤولين وجلدهم بقسوة أمام الرأي العام، وما إلى ذلك من سمات تشكل روح الفن وجوهره الأصيل. وهكذا حال أي لون فني أو أدبي يتمسك بمفرداته وأدواته، حرصًا على عدم امتهان الإبداع وترويضه وإخضاعه لحظيرة الانصياع والتسييس والتدجين.



أمر آخر وراء تفضيل البهجوري إخماد جذوة الإبداع نهائيًّا على الانتقاص من لهيبها أو تهدئة حرارتها، هو إحساسه بأن فنونًا كالكاريكاتير والغرافيتي والكوميكس، لابد أن تبقى ذات حضور جماهيري واسع، وتأثير ملموس في الحراك الشعبي بالشارع المصري، كما كان حالها مثلًا في ميادين ثورات الربيع العربي الحاشدة منذ سنوات قليلة. أما أن تتحول هذه الفنون الدينامية والتفاعلية من أسلحة للمقاومة ومنصّات للتغيير إلى مجرّد استعراضات جمالية منزوعة الفتيل والدسم، أو ألوان باردة بغير روح، فهذه هي النهاية بالتأكيد، التي تُولَد في رحم العزلة والشكلانية والانفصام عن متطلبات المجتمع وآماله، وهذا ما لا يرتضيه فنان كالبهجوري اقترنت أعماله وتجربته طويلًا بمفهوم المسؤولية. ومن ثم، فإنه يبحث عن ذاته، وعن مِصْرِه، في ماضيه، وماضيها، حيث كانت الفرشاة تنبض وتحزن وتضحك، تاركًا الحاضر المستهلك الفارغ لأصحاب المسالك الانتفاعية والمصالح الضيّقة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024