لبنان المئوية الثانية

رشا الأطرش

الثلاثاء 2020/09/01
أنعمت الطبقة الحاكمة أو المتحكّمة في لبنان، وهو على أعتاب مئويته الثانية، بثقافة مهيمنة جديدة. هي قديمة، كمطلبٍ للمتنورين. لكن وضوحها واستفاضاتها طارئة على خطاب نخبة الأمر الواقع. "دولة مدنية"، يقولون، في محاولة لاستملاك ما ليس لهم ولا يُعقل أن يصدر عنهم. حتى أنهم يخطئون في التعبير الذي من الطبيعي أن يخرج، بأصواتهم ومن منابرهم المنخورة، معزوفةً مشوهة، كما هو مصير الألحان المسروقة دائماً. فلبنان، تقنياً، "دولة مدنية"، بمعنى أنه نقيض للدولة المُعسكَرة، ولا دين رسمياً له، ولو أنه دولة الـ18 طائفة. وهُم، إذ يَغفَلون عن "الدولة العلمانية" كتسمية أقرب إلى المطلب الأساس، لا يقترفون الخطأ ببراءة الجاهل، وهُم دوماً الجهلة والمتجاهلون لكل قيمة حديثة ذات معنى وبالتالي تطيحهم. بل لأن كلمة "علمانية" توقظ عفاريت كامنة وترعب "جماهيرهم"، أي طوائفهم التي يفرضون أنفسهم فرضاً على رؤوسها، ويأتون كل الحيل لإبقائها تحت عباءاتهم. هي الطوائف نفسها، وطوائف الآخرين، التي يخطبون فيها بمطلب "المدنية".


ميشال عون، نبيه بري، حسن نصرالله، بشارة الراعي، سليمان فرنجية، وغيرهم كثر... كل منهم، على طريقته وبفذلكاته ومفرداته، افتتح القرن اللبناني الجديد بأطروحة "لبنان دولة مدنية"، خارج القيد الطائفي، مؤسسات وانتخابات وقوانين. أو على الأقل، بكلام عن لبنان بعَقد سياسي/اجتماعي مغاير لما تراكم على مدى القرن المنصرم. العونية تريد انقلاباً مدوزناً على اتفاق الطائف. والمسيحية المضادة للعونية ربما تبتغي استكمال ما لم يُستكمل من "الطائف" بحيث يُحرم خصم البيت الواحد من حماية الكنيسة، ويُسمح لها كأقلية مسيحية متنامية أن تصعد بمعايير أخرى غير شدّ العصب الذي لم تتقنه كما فعلت العونية. أما الشيعية السياسية، فتحلم باستثمار غلبتها العددية بحرية لا تحدّها المناصفة، وإن لم يُتح ذلك، فبمؤتمر تأسيسي (وفقاً لاستفتاء!) يمنحها المثالثة بعدما ملّت مناورات الاستحواذ من داخل النصف المخصص للمسلمين، واستدعاء قوافل الدراجات النارية والسلاح لفرض رؤية أو واقع كلما دعت الحاجة. والإثنان، كالعادة، يرجمان "الشريك السنّي" الذي يلوذ الآن بصمته، ليس لأنه الأصدق أو الأعقل، بل لأنه الأضعف، ومعه بعض طوائف الأقليات. هذا في السياسة المباشرة، في الطائفية السياسية المحضة، والتي، بعدستها، تُرى الثقافة التي تجلت في الخطاب السائد ليلة الاحتفال بمئوية لبنان الكبير.

خطاب المتن الإعلامي المسيحي احتفى بالبطريرك الحويك، بالمناسبة باعتبارها مسيحية يدعون إليها بقية المكونات. حاور ضيوفاً هامشيين، في شكل النظام الذي وصل إلى ما لم يكن يراد له الوصول إليه قبل قرن (حقاً؟)، قافزاً من فوق الأزمات والحروب، والمارونية السياسية وأضدادها، وشتى الاحتلالات، وجبال الارتكابات الاقتصادية والفساد والمحسوبيات، منذ إعلان لبنان الكبير، وصولاً إلى الجمهوريتين الأولى والثانية. كما استعاد جبران خليل جبران، ومعاناة المسيحيين في المجاعة، و"حلاوة الانتداب الفرنسي" الأنيق ومرارة العيش تحت "نير العثمانيين"، بكليشيهات تراكبت عموداً بلغ السماء. وفي هذه الأثناء، دبّج جبران باسيل كلمة مدهشة عن "الطائفية التي جعلت الإنتماء الى الطائفة أكبر من الإنتماء الى الوطن"، وعن "الفساد المحمي من الطائفية". وقبل أسابيع قليلة فقط، كي نسوق مثالاً واحداً بسيطاً ولا نغوص في بحر ما اضطلع به منذ عشر سنوات على الأقل، عمل باسيل، بإسم عمّه الرئيس وشخصه، في كواليس قصر بعبدا، على جعل المجلس الدستوري يبطل قانوناً كان سيساهم في خفض منسوب الطائفية والمحسوبيات في آليات تعيين موظفي الفئة الأولى في الدولة لصالح الكفاءة، فأعاد الآليات هذه إلى الحظيرة المعروفة وصلاحيات الوزير المختص.

أما ثقافة المشهد الشعبي، العفوي إلى حد كبير، فهي التي جعلت أغنية نوال الزغبي تصدح عبر مكبرات الصوت في مسجد قرية النميرية في الجنوب. إذ ضبط شيخ الجامع إبرة الراديو على إذاعة ظنها "الرسالة"، لبث خطاب نبيه بري لآذان أهل القرية، وخرج يتسوق. لكن الخطاب انتهى بأسرع مما احتسب الشيخ، وأكملت الإذاعة برمجتها المنوعة، لتغني نوال للخاشعين: "مش خايفة من غيابك، أنا عايزاك تختفي"، وثمة من سجّل الواقعة بالفيديو وبثّها عبر الشبكات الاجتماعية، ليخرج بيان يتوعّد مَن سجَّل ونشر، ولا يذكر الشيخ الغائب. وفي هذا الخطاب، طالب بري جميع الأطراف السياسية بملاقاة "حركة أمل" على عناوين عديدة، أهمها دولة مدنية وإنشاء مجلس الشيوخ، واستقلالية القضاء.. الذي قال ذات مرة إنه "للضعفاء"، وهو يقاضي الآن إعلاميين فتحوا ملف "شرطة مجلس النواب" التي لا تدين بالولاء إلا لرئيس المجلس. وفي هذا النص السمعي-البصري الطريف، نرى المكونات التالية: جامع، مئذنة بمكبرات صوت، ذكرى تغييب الإمام الصدر، كلمة بري المُذاعة، محتلة الفضاء لمن يرغب ومن لا يرغب، وخطأ ظريف يُفضح، فيُهدد فاضحه بالملاحقة دون مقترفه، في العلن على الأقل، في الثقافة السائدة المُسيّدة. وهي نفسها الثقافة، وبصرياتها، التي تُرفع بموجبها صور المُدان في المحكمة الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فتحدث حرباً أهلية صغيرة ما زالت جمراتها متقدة في خلدة حتى اللحظة.

ويبقى مشهد شعبي آخر، اليوم، في ساحة الشهداء ونهر الكلب، يحتفل بالمئوية منادياً بدولة، وإذ به كمَن سيق إلى فخ نصبه لنفسه، وانجرّ إلى أجندة سبقته إليها الطبقة نفسها المطلوبة تنحيتها.

ثمة الكثير مما لا تتسع له هذه السطور، واقتُرف على مدى 100 عام، وفي الأعوام الخمسة عشر الأخيرة خصوصاً. لكن الأهم، أن "النخبة" توافقت على رئيس حكومة جديد. أديب، مدني، بل دبلوماسي في المهنة والخطاب والعلاقات التي ترشح زيتاً مع أقطاب الطوائف كافة. وهو الذي عرفه اللبنانيون، قبل طرح اسمه للمنصب، كمتهرب من فحص كورونا الإلزامي لركوب الطائرة من برلين إلى بيروت، وكسفير ابتهج لبنانيو ألمانيا بمغادرته، علّ السفارة تمنى بآخر لا يملأ الجدران بصور زعماء الطوائف، وربما ينجز واجباته ومعاملاتهم. فأهلاً وسهلاً في لبنان الدولة المدنية العتيدة، ومبروكة علينا الأعوام المئتان المقبلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024