"ليمبو": بِن شاروك ليس نادين لبكي.. لحسن الحظ

محمد صبحي

الخميس 2021/01/07
منذ المشهد الافتتاحي لفيلم "ليمبو"(*)، يستدعي المتفرج مرجعين واضحين: إيليا سليمان وآكي كوريسماكي. "الميزانسين"، الكاميرا الثابتة، تأطير الكادرات، تناغم الألوان، روح الفكاهة.. تتشابه كلّها في الفيلم مع أعمال السينمائيَين، الفلسطيني والفنلندي، وتتجانس بإحكام لدرجة أن المرء قد يعتقد أنه حصل على الفيلم الخطأ وأن هذه ليست دراما عن اللجوء واللاجئين. لكن مع تقدّم الفيلم، وتثبيت نبرته، تتضحّ لمسة المخرج بِن شاروك شيئاً فشيئاً، ويصبح الفيلم شخصياً أكثر، بتمكّن دقيق وحسّاس في تحويل الفكاهة والسخرية إلى وسيلة ناجعة للإشارة بشكل أعمق إلى حزن وألم موضوعه. وفي حين يفعل السينمائيان السابق ذكرهما ذلك أيضاً، يبتعد عنهما شاروك بميل واضح نحو الدرامية والعاطفية، بأسلوب مشابه لما فعله في فيلمه الأول "بيكاديرو" وحكايته عن زوجين شابين إسبانيين يواجهان صعوبة في إكمال علاقتهما الوليدة بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلد.

في فيلمه الجديد، يفعلها بن شاروك مرة أخرى ويلاحق حياة الأجانب، لكن هذه المرة في بلده، بتسليطه الضوء على جوانب جديدة في قضية اللاجئين. لأن بن شاروك ليس نادين لبكي، لحسن الحظ، فهو يفعل ذلك دون غوغائية أو أبوية، بطرحٍ لا يستسهل الإجابات ولا يخشى إزعاج متفرجه (الأوروبي اليميني تحديداً) بالأسئلة. "ليمبو" يشير عنوانه إلى مضمونه بشكل حرفي، فأحداثه تدور في جزيرة نائية في شمال اسكتلندا (أويست الشمالية)، وهي مكان فارغ وكئيب حيث تنتظر مجموعة من المهاجرين من مختلف البلدان قبولهم كلاجئين سياسيين في بريطانيا. لا يعرفون كم من الوقت سيبقون هناك، لذلك تمرّ أيامهم داخل "معسكر تأهيل" لطالبي اللجوء في تعلُّم العادات البريطانية التي من المفترض أن يستخدموها يوماً ما (وهو الجزء الأكثر هزلية من القصة، مع الممثلة الدنماركية سيدسي بابيت كنودسن وهي تعلّمهم خطوات الرقص أو استعمالات محددة للغة الإنكليزية)، يشاهدون لمئات المرات الحلقات الوحيدة من مسلسل "فريندز" المتاحة لديهم على قرص DVD أو، يتصلون، من هاتف عمومي مهجور، بأقاربهم. ينتظرون، أكثر من أي شيء آخر، غودو أو أياً كان اسم دائرة الهجرة البريطانية.


يركز الفيلم على أربعة من هؤلاء المهاجرين العالقين في ما يشبه حجراً صحياً أبدياً (مفتوح صحيح، لكنه معزول ورتيب)، وبالأخص عُمر. عُمر (أمير المصري) موسيقي سوري شاب هرب من المقتلة المقيمة في بلاده ويحلم بالحصول على حق اللجوء في المملكة المتحدة، مثل أقرانه في الفيلم (من أفغانستان والعراق ونيجيريا والسودان)، يريد الذهاب إلى لندن، ولكن - حتى تقيّم السلطات طلبه – يُرسل إلى أويست، لينتظر هناك ولا يفعل شيئاً في وسط اللامكان. عائلته موزّعة على عدة أماكن، فوالديه فرّا إلى تركيا وما زالا هناك، بينما بقي شقيقه للقتال في سوريا. من بينهم جميعاً هو الأكثر وعياً وانزعاجاً وآسفاً بشأن الوضع. إنه عازف عود لكنه لا يستطيع الاقتراب من عوده الذي يحمله معه أينما ذهب، ويعاني في كل مرة يتواصل فيها مع والدته، حتى عندما يتحدثون عن أشياء عادية مثل وصفة للطعام أو الاختلافات بين ستالون وشوارزنيغر.

يكتمل الرباعي بفرهاد (فيكاش بهاي) اللاجئ الأفغاني اللطيف والودود الذي يكّن إعجاباً كبيراً بفريدي ميركوري ويدّعي أنه قدِم إلى بريطانيا من أجله، وشابين نيجيريان (كوابينا آنسا وأولا أوريبي) يتشاجران باستمرار على كل شيء، من العلاقة بين رايتشل وروس ("فريندز" مرة أخرى)، إلى حلم أكبرهم باللعب لفريق تشيلسي لكرة القدم. في الأنحاء، يوجد سوبر ماركت، مالكه رجل اسكتلندي جاف من أصول باكستانية، وحانة وعدد قليل من السكان الآخرين، ليسوا بالضرورة ودودين تجاه المهاجرين. مآسٍ وملاهٍ يترافقان في علوق بلا أملٍ ولا قرار. يركزّ الفيلم على يوميات المهاجرين، وفي القلب منهم عُمر، وعلاقاتهم ببعضهم البعض ونتف ذكرياتهم المحكية في جلسات سمر ماراثونية أو جدالات حادة.

شيئاً فشيئاً يُفسح المجال أمام البطل لمعاينة قراراته والشعور بالسوء المتزايد تجاهها. ماذا لو لم يأخذ قرار الخروج من سوريا؟ وماذا لو ظلّ هناك وقاتل إلى جانب أخيه بدلاً من قضاء الوقت في اللاشيء؟ فرهاد يحفّزه على العزف من جديد في الحانة المحلية ويقول إنه سيكون وكيله ومدير أعماله. لكن وجه عمر الحزين يعيد الأمور إلى عاطفيتها. الاستعارات المقترحة قد تكون واضحة بعض الشيء وثمة ميل إلى العاطفية الزائدة في ثلثه الأخير، لكن هذا لا يعني غياب المنطقية عن الطرح أو قصور الرؤية. كما يحدث في العديد من مخيمات اللاجئين الحقيقية (المختلفة كثيراً عن ذلك الموجود في الفيلم)، فاليأس والضجر يتملّكان العالقين، وروح الدعابة لازمة لتمضية الوقت، فيما تخدش النوستالجيا أرواح مَن ينتظرون طويلاً بعض الإجابات. وبالطبع، تحضر العنصرية الأوروبية.

علاقات عمر مع زملائه الثلاثة، والمعلمين، وأهالي الجزيرة، وعائلته، ترسم، بضربة واحدة، الحياة اليومية للاجئين. من المشاكل البيروقراطية إلى التحيّزات والشكوك والمخاوف والأسباب التي دفعتهم إلى اتخاذ قراراتهم. دائماً مدفوعة بتلك الرقّة التي فيها من اللطف بقدر الألم، شعورٌ لا يزول أثره طوال الفيلم تقريباً. التفريق بين الرقّة والشفقة هو المفتاح. لمواجهة هذه المشكلة، كما يقول فرهاد في الفيلم، عليك تعلُّم كيفية الابتسامة بعينيك، على طريقة النساء الأفغانيات اللاتي لا يظهر منهن سوى أعينهن خلف النقاب. هناك شيء من كين لوتش في النظرة الإنسانية التي يعتمدها الفيلم لتقديم شخصياته، دون أحكام مطلقاً وبتعاطف كامل وعلى طول الطريق، كما يعتمد الفيلم في إبراز التضاد بين جمال الطبيعة ومآزق الوجود الإنساني مزيجاً من جمالية ونبرة ويس أندرسون وحدّة وحيوية شين ميدوز، ويستفيد من الوسط المحيط عبر استخدام رائع لجغرافيا الجزيرة، التلال الثابتة والبحر الهائج تحت المطر أو الرياح أو الثلوج، الثلوج التي أودت بحياة أحد أبطال الفيلم، كما تفعل الآن في الحدود الخارجية الأوروبية حيث تستبقي القارة العجوز اللاجئين في خيام بلاستيكية لا تدفع البرد.

يكمن جانب من جمال الفيلم في اختيارات المخرج الأسلوبية، بداية من تأطير فيلمه بالأبعاد 4:3 وإحساسها المصاحب بالضيق والانقباض، وحجم اللقطات وطولها، وتكوين الكادر الذي يبدو مثيراً للضحك والسخرية في البداية لكن لاحقاً تظهر آثاره العاطفية والحزينة. شاعرية رقيقة وحسّاسة كانت ستثمر نتائج أفضل لو تقلّصت مدة الفيلم قليلاً أو تجنّب بعض الفيضانات العاطفية قرب نهايته (والتي تبدو كأنها وافدة من فيلم آخر). لكن روح الفيلم الكبيرة وما اشتمل عليه من لحظات عامرة تتجاوز تلك المشاكل الصغيرة. نظرة عُمر الحزينة، والمناظر الطبيعية المقفرة، والرياح التي تعمل كخلفية.. توضح كل ما يحتاج المرء تقريباً لمعرفته حول التجربة المؤذية والقاسية للاجئين في أي مكان على هذا الكوكب: الوحدة والحزن، وقبل كل شيء اللايقين مما سيكون عليه الغد، إن كان ثمة غد.

(*) الفيلم المتوّج بجائزة "الهرم الذهبي لأفضل فيلم" في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024