روبي.. وسنين العمر

هشام أصلان

الأربعاء 2019/02/06
1
كنا في العام 2003 عند العرض الأول لفيلم "سهر الليالي"، وبدا أن السينما المصرية ترى محطة لافتة في علاقتها بالجمهور الجديد. بدأت هذه العلاقة مع "إسماعيلية رايح جاي"، ثم موجة الأفلام الكوميدية لمن أُطلق عليهم "جيل هنيدي".

الجمهور الجديد هو شريحة تكونت ممن دخلوا المراهقة، وحتى الذين على وشك الخروج منها. امتلأت دور العرض ثانية بعدما كانت قد فرغت سنوات، حيث الآباء والأمهات زهدوا هذا النوع من الترفيه لأسباب عُمرية واجتماعية مضافة إلى ظروف الصناعة. سينسحب نجوم السبعينيات والثمانينيات، ويخفت لمعان أغلبهم، قبل أن يجد بعضهم ملاذًا مستقبليًا ملائمًا في بطولات الدراما أو القبول بالأدوار الثانية في السينما. مع امتلاء القاعات مُجددًا، واستقرار الصُنّاع على توليفة الكوميديا المضمونة جماهيريًا، سيُدرك بعضهم أن جمهورهم المراهق لن يخذلهم احتياجه إلى بعض الرومانسية إلى جانب هيستريا الضحك التي لا تتوقف. ويفكر هذا البعض في مغامرة محسوبة ببطولات جماعية، لتأتينا أفلام من قبيل "شورت وفانلة وكاب"، في نزعة عاطفية ممزوجة بالأكشن، قبل أن يجربوا وصفة جديدة من الرومانسية الاجتماعية الخالصة في "سهر الليالي" ويحالفها نجاح كبير. لكن كيف لفيلم، يقوم على أربع حكايات عن العلاقة بين الرجل والمرأة، أن يمرّ من دون قُبلة؟

قال لي مخرج معروف: "سهر الليالي ده يعتبر عمرو خالد بس على سينما". لم أفهم وقتها. بعد قليل سيكون تعبير "السينما النظيفة" قد وجد طريقه بين المهتمين.

2
كنا في العام 2003 عندما انخطفت أنظارنا. فتاة مصرية جميلة منطلقة تغني في شوارع "براغ". ترتدي "بدلة رقص" شرقية، وتغني. كانت "بدلة رقص" حقيقية، لم يأخذ صانعها في اعتباره مواصفات "التفصيل" في زمن السينما النظيفة، بينما لا يبدو على الفتاة حد أدنى من الارتباك. تسير مُطوّحة بساقيها وذراعيها في ارتياح، وترقص بجمال. كانت صغيرة مُقبلة، وكُنّا صغارًا مشدوهين.

تلك حالة لن أطيل الكلام حولها. هي "ماستر سين" يتحدث عنه الجميع، وعتبة لا بد منها.

3
لم تُصوّر روبي كليبات كثيرة في تلك الفترة. بعد أغنية أو اثنتين في مستوى الجرأة نفسه أو أعلى قليلًا، سيبدو واضحًا، في ذلك الزمن وبطبيعة الحال، أن محبيها هُم أبناء تلك الشريحة العُمرية، المكتوفين بوصاية مجتمع يشترط على فنونه الحشمة طالما أنها نتاجه، بينما يقبل رفع سقفه في إنتاج المجتمعات الأخرى. كانت، في انفتاحها، مصرية وحيدة في شاشة احتشدت بانفتاح مطربات لبنان. ونحن، الذين جدّد هذا الجيل من المطربات ذائقتنا، وربط بينها وبين ذائقة الجمهور الأصغر عُمرًا، كنّا في وعي يسمح بالتفرقة بين ما إذا كان فنًا أو مجرد "مناظر"، بينما لم تكن ظهورنا استقامت كفاية، حتى نستطيع الدفاع عما نُحبه. بالكاد أغلقنا آذاننا عما يردده الآباء والأمهات تعبيرًا عن تأففهم مما نُحب ووصفه بمجرد تعرٍ أو بـ"البورنو كليب"، وكيف أن الفن الحقيقي توقف عند ما أحبوه. يفعلونها، طبعًا، قبل ظهور روبي بسنوات، وإن أبدى بعضهم -على استحياء- إعجابًا ببعض نجوم الجيل المُحافظين. استهانة مُستمرة، ومصادرة يمنع التهذيب وصفها بما يليق.

ما حصل حول روبي كان جدلًا وضجيجًا، وأجواء يتنفس فيها الظلاميون بارتياح. رفع المحامي نبيه الوحش دعوى قضائية على نقيب الموسيقيين، حسن أبو السعود، لموافقة الأخير على منح روبي عضوية نقابة المهن الموسيقية. بعدها بثلاث سنوات، صدر حُكم قضائي بشطب عضويتها النقابية، قبل أن يمنعها نقيب الفنانين السوريين صباح عبيد من الغناء في سوريا، في قرار شمل إليسا وهيفاء وهبي، من أجل الحد، حسب وصفه، من "العريّ والبذاءة". لم يكن كل ذلك مدهشًا، في زمن "السينما النظيفة"، الذي أحببنا، من دون وعي، وجهًا من وجوهه.

4
مرت السنوات. صار أصغرنا شابًا، وأكبرنا على مشارف الأربعين. مررنا بما يضاعف نُضجنا. التصالح مع الأصغر عُمرًا بدا واضحًا كسبيل معقول لمن يريد تجديد دمائه. خرج منّا صُنّاع جُدد للدراما والسينما.
بين العامين 20011 و2018، شاركت روبي في عدد من الأفلام والمسلسلات، بينها أعمال نجحت نُخبويًا وجماهيريًا، ربما أكثرها ألقًا من حيث اتساع المُحبين كان مسلسل "سجن النسا" المأخوذ عن رواية فتحية العسال، وعالجته للدراما مريم نعوم، وأخرجته كاملة أبو ذكري.

بانسيابية، وبصيغة لا تستطيع التقاط أول خيطها، أصبحت محبوبة من الجميع، أو لنقل الغالبية. أصبح لحضورها وقع مُبهج ولو كان مرورًا في فيديو قصير أو صورة لافتة. صارت أكثر هدوءًا في جرأتها، ومثل بعض نظيراتها من المطربات اللواتي اُتهمن بانعدام الملكات والفقر سوى من التعري، قال الزمن إن لديها ولديهن أدوات أخرى، بينما صرنا نحن أكثر قدرة على التحدث والدفاع عما نحب.

5
في إحدى سنوات التسعينيات، كان أبي أتم الستين من العمر، وبينما جلسنا أمام التلفزيون نشاهد حفلة افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حانت لحظة ظهور ضيفة المهرجان، النجمة الإيطالية صوفيا لورين، على خشبة المسرح، بحضور فادح وجمال لم يمحُه الزمن. ابتهج أبي كثيرًا، وقال كلامًا عن كيف استطاعت الحفاظ على تألقها، وأضاف: "بالمناسبة هي من عمري بالظبط، عندها ستين سنة زيّي". لم يكن مُبتهجًا من أجل صوفيا بقدر ما كان مُمتنًا لطلّتها التي دعمت إمكانية التألق في الستين. كان فرحًا لنفسه. وأنا، أتمنى أن نصل للستين، بينما تصل معنا روبي ونظيراتها بألق وبهجة يحفظان أملنا في ألا يأتي علينا العُمر بالتواري. آمل أن أقول بفرح: "بالمناسبة هي من عمري بالظبط"، ولو كان بيننا فرق عام أو اثنين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024