لا أفلام رعب لبنانية.. لماذا؟

روجيه عوطة

الثلاثاء 2017/09/05
مع إنطلاق مهرجان "مسكون" بعد أيام في بيروت، يجد الإستفهام، الذي تردده كثرة، سياقه: لماذا لا توجد أفلام رعب محلية؟ لمحاولة الإجابة، لا بدّ من طرح الاستفهام بطريقة أخرى: ماذا يعني ألا توجد أفلام رعب محلية؟ أو ماذا يعني غيابها؟


من الممكن التسلل مباشرةً إلى القول: محلياً، لا يبدو أن أحداً من المخرجين يشعر بضرورة تلك الأفلام. لكن التسلل يقتضي التعليق. ذلك أن الإغفال عن إخراجها مرتبط ببعض الدواعي.

فقد يصح الإعتقاد بأن سببه هو غياب جهات معنية بإنتاج هكذا نوع من الأفلام، أو غياب منح مالية لتغطية كلفتها، إلا أنها، وعلى ما تشير تجارب عالمية في سينما الرعب، لا تحتاج إلى تمويل ضخم، كما أن تسجيلها بكاميرا الهاتف قد يمدها بصورة موائمة لها. وفي الوقت نفسه، قد يُشكى من شحٍّ في الكتّاب المتخصصين في تأليف سيناريوهات الرعب، وهذه الشكوى تنطوي على تعميمٍ، فعدد روائيينا، وفي حال أنهم الأقرب إلى الإناطة بهذه المهمة، لا بأس به، ومَن يفتش بينهم يجِد.

ثم أن هذه الشكوى، التي تعزل أفلام الرعب عن غيرها من ناحية تدبيجها، ليست سوى حجة باطلة، وغالباً ما تنطوي على نظرة مزدوجة من قبيلها: ليست سينما الرعب مجالاً إبداعياً، بل إنه مجال محض "هوليوودي"... أو أن سينما الرعب لا تجذب الجمهور إلى الصالات على اعتبار أنه يحبذ التسلية المقترنة بالضحك أو بالبكاء أو بالإثنين معاً، أي أنه لا يحبذ الترويح عن نفسه بالخوف، بل بالكوميديا والدراما، على ما تفيد الدعاية التعميمية. في حين أن الواقع يثبت العكس، وببساطة جديدة، إذ لا ينفك أصحاب صالات السينما اللبنانية يستوردون أفلام الرعب الأجنبية، والتي تحقق نجاحاً هائلاً، وتتسبب في نفاد تذاكر الدخول!

طبعاً، هذه النظرة، يتشاطرها المقيمون في الوجهتين الرسمية للسينما المحلية: الأولى، التي توصف، بهتاناً، بالمستقلة، وفي أحيان أخرى، بالتجريبية. والثانية، التي توصف، زوراً، بالتجارية، وفي أحيان أخرى، بالـ"قريبة من الناس". فتتقاسم الوجهتان اللتان تتداخلان وتتشابهان للغاية، على الرغم من تراشقهما للتهم المتعارضة، نظرة واحدة إلى سينما الرعب، مفادها النفور والإستخفاف. وحتى عندما يتقدم أحد المقيمين في الوجهتين لتناول موضوعة رعبية، فإنه يفعل ذلك في إطارٍ لا يبديها، وبشكل لا يتصل بها، فتُسحق تحت إستعارتها.

لكن، وبديهياً، لكي يشعر المخرجون بضرورة سينما الرعب، ما عليهم أن يكونوا عندها مخرجين، وما عليهم أن يكونوا مقيمين جامدين ومكتفين فيي إحدى الوجهتين "المستقلة" و"التجارية". بل عليهم أن يقطنوا في غيرهما، أي أن يقطنوا، وبعبارة واسعة، في البلاد. بمعنى آخر، أن يشعروا بتلك الضرورة بوصفها متعلقة بعيشهم، لا بمهنتهم، قبل نقلهم لها من العيش إلى التناول. فالشعور بضرورة تلك السينما هو، على الأقل، شعور بشيء وإدراك لشيء ثان.

أولاً، أن الرعب، وبوصفه حالات ومواقف مجتمعية، موجود وحاضر. وبالتالي، لا مناص من إخراجه بأشكال ومقاربات متمكنة منه. وثانياً، أن ذلك الرعب، وحين يتحول إلى شريط بصري، يؤدي إلى أمر محدد، وهو تشكيل خشية المتفرجين، أي وضعها في شكل وإعطائها موضوعاً.

على أن هذين الشيئين، ومع غياب سينما الرعب اللبنانية، يحتكر تحقيقهما طرفٌ، اسمه الإعلام. إذ إنه يأخذ على عاتقه إبانة الرعب، بالإتكاء على أخبار العنف والموت على أنواعهما. غير أنه يفعل ذلك بطريقة لا صلة لها بطريقة السينما طبعاً، إذ إنه لا يُخرج الرعب، بل ينبئ به كواقعة لجذب المتلقين، كما أنه، وبهذا، لا يشكّل رعبهم، بل يتلاعب بنزوعاتهم.

وثمة إختلاف بين فعلي التشكيل والتلاعب، بحيث أن التشكيل قد يحث المشاهد على الرؤية، رؤية أن في بعض الحالات والمواقف، هناك رعب لم ينتبه إليه من قبل. أما التلاعب، فيعمد إلى تدوير نزوعاته، وإلى جعله مستهلكاً للموت والعنف الفعليين بالتماهي: "فلان قتل علان"، فلان هو أنت، أو فلان يقتل عنك، فعليك أن ترفض وتشجب، أو أن تقبل وتغتبط في سرّك! في النتيجة، هناك آلية تشكيل الخوف المرتبطة بسينما الرعب. وهناك، من جهة أخرى، آلية التلاعب بالنزوعات، التي يعمل ذلك الصنف من الإعلام على أساسها. غياب الأولى يفضي إلى سيطرة الثانية، وهذه السيطرة ترسخ ذاك الغياب.

وهكذا، للإستخفاف بسينما الرعب داعٍ آخر، غير الإعتقاد بأنها محض "هوليوودية"، ومحض منفرة للجمهور. وهو وقوع وجهتي السينما الرسمية خلف أرض الإعلام، وتوجه المقيمين فيهما نحوها، أكان بشكل مباشر أو موارب. ولا يعني الفعل الأخير، الرغبة في الظهور الميديوي فحسب، بل الإستناد إلى المنظور التلفزيوني لتناول المسائل والموضوعات، تماماً كما قد يطرح فيلم ما "سياقه السياسي" عبر عرض نشرة الأخبار في أحد مقاطعه. فيعني فتح باب الأفلام، لكي تجتاحها المشهدية الإعلانية والمسلسلاتية، أن تصبح الشاشة الكبيرة استمراراً للشاشة الصغيرة، أو بالأحرى لتصير عرضاً لها. وفي هذا المطاف، لا بد من تعقيب بسيط على ضعف التمثيل في السينما، بحيث أنه يحيل إلى إحدى النكات المشهورة عن الممثلين السيئين: لا يعرفون كيف يمثلون لأنهم، وفي لحظة واحدة، وفي مشهد واحد، يمثلون مرتين، في التلفزيون وفي الفيلم على حد سواء. ومن الممكن الإضافة إلى أنهم يمثلون في ما قبل الإثنين أيضاً، أي يمثلون كثيراً قبل أن يمثلوا في الأفلام التي يبدون فيها منهكين من مغبة التمثيل.

على هذا الأساس، أساس الإجتياح الميديوي للسينما، يظهر إقلاع الأخيرة عن إخراج الرعب كأنه تحصيل حاصل، بسبب اعتقادها بأن هذه مهمة الإعلام، وليست مهمتها، فلما ترفضها، لا تظن أنها رفضتها فعلياً، كما لا تظن أنها تتنازل عنها.

بعد هذا، وباختصار، حينما تُسلّم السينما، إخراج الرعب، للإعلام، فذلك لتضمن بقاءها على قيد الكلام. ذلك أن الإعلام حين يبين الرعب ليتلاعب بنزوعات متلقيه، وبالتالي لا يشكل خوفهم، تاركاً هذا الدور للمدار السياسي تحديداً، فإنه يحافظ على الهشاشة الأفقية في البلاد والتي يُعرب عنها الإنقسام والتفتت والإنعزال. وهكذا، تجد تلك السينما دورها، بحيث تجيء بـ"رسائلها" لتلعن الهشاشة، أو لتتذنب حيال المجنى عليهم من قبل مرجعها، أي الإعلام، تاركةً "باب التأويل" مفتوحاً لهم: أدخلوا، أعطوا معنى لهذا الـ"أي شيء" الذي أقدمه لكم، علّكم تشعرون بأنكم فاعلون، والأهم، أن أخفف ذنبي اتجاهكم. في الواقع، كلما امتنعت هذه السينما، وبوجهتيها، عن إخراج الرعب، وأمعنت في تسليم إبانته لمرجعها، ستصير مرآته، أي وببساطة، ستزداد رداءةً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024