بورات ٢: الهولوكوست العادي

شادي لويس

الأحد 2020/11/15
يفصل بين الفيلمين 14 عاماً، "بورات" الأول كان فضيحة، نكتة طويلة مجهدة، صدمة، أو نبوءة عن مجتمع كأنه يشاهد نفسه لأول مرة على الشاشة. الصحافي الكازخستاني الذي يصنع فيلماً تسجيلياً عن الولايات المتحدة، لا يجد فرقاً كبيراً بينها وبين بلده المرسومة بصورة كاريكاتورية، تعليقاته العنصرية والذكورية تمر بلا اعتراض أو مقاومة، يتجاوب معها الأميركيون أحياناً كثيرة بالإيجاب، يفعلون ذلك أمام الكاميرات بأريحية شديدة. الجزء الثاني من الفيلم(اخراج جايسون وولينر)، الذي أُطلق قبل أيام من الانتخابات الأميركية، جاء بعد أن طبع الجميع مع تلك الفجاجة، النبؤة كانت قد تحققت، نكات بورات الفضائحية أضحت تلقى في المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض بشكل يومي، لم تعد هناك حاجة للصدمة، أو أن الصدمة لم تعد ممكنة. حتى كازاخستان التي منعت الجزء الأول من الفيلم، كونه يسيء لصورة البلاد، تستخدم اليوم الجزء الثاني في حملة للترويج السياحي، لم يعد هناك شيئ يجلب الشعور بالعار، على العكس، العار مادة للتسويق الناجح.

يعود الممثل البريطاني، ساشا بارون كوهين، إلى الولايات المتحدة. مرة أخرى بشخصية "بورات ساجدييف"، القادم في مهمة رسمية من حكومة بلده، ليوصل هدية إلى نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس. الهدية/الرشوة هي إبنته البالغة من العمر 15 عاماً. يعتمد الفيلم الذي صُوّر في الشهور الأولى من جائحة كورونا، على قالب الفيلم الوثائقي كسابقه، سينما أقرب إلى تلفزيون الواقع. يدرك المشاركون إنهم أمام الكاميرات، لكنهم لا يعرفون الطبيعة الساخرة للعمل، بورات يتخفى في هيئة شخصية أخرى، حتى لا يتعرّف عليه الجمهور. طبقتان من التنكر، خدعة داخل خدعة، لكن ومع هذا أو بفضله يظل كل شيء حقيقياً جداً.

يتورط أبطال الفيلم بشكل مباشر في الملهاة السياسية في الولايات المتحدة، يقتحم بورات اجتماعاً جماهيرياً لنائب الرئيس، وتحضر إبنته اجتماعاً لنساء الحزب الجمهوري، ينصب صناع الفيلم فخاً لمحامي ترامب وعمدة بلدية نيويورك السابق، رودي جولياني. ولا يدعوه يسقط بالكامل فيه. الفضيحة مخجلة لكن بلا تبعات سياسية حقيقة. السياسة المباشرة كانت أضعف جوانب الفيلم، لا بسبب مباشرتها بل لأن الكوميديا تظل أقل صدمة من واقع المشهد السياسي.


أفدح ما يكشفه الفيلم هو ذلك الانحدار العام نحو الكارثة، تلك النزعة التحتية واليومية. في أحد المشاهد الأولى، يصل ساعي البريد بطرد كبير، يفتحه بورات فيجد إبنته داخله، ومن ثم يرفض مرافقتها له في رحلته ويرفض استلام الطرد، ببساطة وبكل أريحية يعاون ساعي البريد بورات في إرجاع الابنة إلى الصندوق الكبير، ويساعده على إغلاقه، ويحملها راجعاً إلى السيارة. في مشهد آخر، داخل متجر للمعدات يخبر بورات البائع بإنه يريد أن يقتل مجموعة من الغجر بالغاز، ويسأله إن كانت عبوة من الغاز كافية. ينصحه البائع بكل حيادية بشراء عبوة بحجم أكبر لتكون فعالة. خدمة عملاء على مستوى جيد، نصيحة أمينة وسلوك مهني لا غبار عليه، برغماتية لا تتدخل في شؤون الغير وتحترم الخصوصية، فردية غير معنية بالحكم الأخلاقي على الآخرين. نرى أمام عيوننا بين نوبات الضحك الهستيرية، هولوكوست في طور التجهيز. الضحايا محمولون في صناديق وغرف الغاز في انتظارهم، هولوكوست مكتمل وجاهز وينتظر إشارة الانطلاق. كوهين الممثل المعروف بصهيونيته، لا يفلت فرصة لتذكيرنا بالمحرقة اليهودية، لوهلة يبدو وكأن الضحايا المهددين هم ضحايا الهولوكوست الأول، الغجر واليهود. يلتقى بورات في كنيس بواحدة من الناجيات من المحرقة، في مشهد مؤثر لكن معاد ومحفوظ. الذاكرة ضرورية بالفعل، كيف يمكن للأمور أن تنقلب إلى كابوس مريع في لحظة، لكن تلك الذاكرة الطاغية تخفي ضحايا الحاضر المستهدفين علناً، سواء السود أو المسلمين واللاتينيين.
 الأميركيون الذين يلقاهم بورات ليسوا وحوشاً، ولا مجرد أناس متبلدي الحس، بل العكس أشخاص عاديون وأصحاب نية حسنة. يقضي بورات فترة الحجر مع رجلين من المؤمنين بنظريات المؤامرة. الرجلان طيبان بالفعل، جاهزان دائما للمساعدة، ولا تملك سوى أن تُعجب بهما بل وأن تحبهما أيضاً. يحضر بورات معهما فعالية سياسية في الهواء المفتوح، الحضور يحملون الأسلحة الآلية ويغنون معه أغنية تدعو لتقطيع الصحافيين على طريقة السفارة السعودية في اسطنبول، والتخلص من الأطباء، ويضحك الجميع ونضحك أيضاً، نضحك بدلاً من أن نجزع.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024