جهاد هديب.. الشاعر الذي خانه الألم

بشير البكر

الإثنين 2020/11/16
كان الشاعر جهاد هديب يراسلني من عمّان منذ اوائل التسعينيات من القرن الماضي. اتلقى منه بعض الكتب والرسائل اللطيفة، ولم اعرف سبب اهتمامه بي إلا حين التقيته العام 2008 عندما قدم إلى الشارقة للعمل في صحيفة "الخليج" التي كنت أعمل فيها من باريس. ويعود السبب إلى أن صديقاً مشتركاً حدثه عني ذات ليلة في عمان فرسم لي صورة قريبة من القلب من دون أن يعرفني شخصياً، وحين التقيته كانت قصة أخرى بدايتها ان جهاد دعانا الى منزله الصغير قبالة مبنى الصحيفة وأقام لنا وليمة نحن الأصدقاء، نواف يونس، محمود ابو حامد، عمر شبانة، معن البياري، حكيم عنكر، وسعيد البرغوثي. وفي اليوم الثاني اتصل بي وأراد أن نلتقي على انفراد، وحصل ذلك في مقهى داخل "مول سيتي سنتر"، وبادرني بالسؤال عن أحوال المغرب، فأجبته عن سؤاله بإسهاب حول المغرب الثقافي الذي أعرفه، ولم اشك لحظة في انه كان يحسبني مغربياً، حتى فضح نفسه بسؤال استنكاري: تجيب وكأنك تريد أن تقول انك لست مغربيا، ولكنك مغربي التفاصيل. فأوضحت له أني مغربي الهوى وليس الهوية، فضحكنا وأخذت الصداقة منحى آخر. وساهم الكاتب السوري نواف يونس بتوطيد علاقتي مع جهاد، هذا الشاعر صاحب الصوت الخافت والخاص الذي كان يريد أن يغرد وحده بعيداً من جموع الطيور المتشابهة، لكن الموت خطفه باكراً خلال معركة مفاجئة وشرسة في مثل هذه الأيام من العام 2015.

لم يمكث جهاد طويلاً في صحيفة "الخليج"، وقد هاتفني ذات ليلة وأنا في باريس ليعلمني أن مدير التحرير قرر طرده من العمل لأن زميله في القسم اشتكى عليه بتناول كأس من الكحول قبل أن يأتي للعمل، فقام مدير التحرير بصرفه بشكل تعسفي ومن دون تحقيق، وبات جهاد في الشارع بلا عمل، وهو الذي قدم من الأردن وقبل راتبا لا يتجاوز ألفي دولار من أجل أن يفتح في حياته نافذة جديدة. ولأنه لا يريد العودة للوراء، بقي في الشارقة، واشتغل كصحافي "فري لانسر" مرة، وفي مشاريع هامشية مرة أخرى كي يؤمن إيجار الغرفة والمصروف اليومي. وكان جهاد عصامياً جداً ولم يُهزم أمام الحالة الصعبة التي عاشها، وعمل على تدبير شؤونه بما يوحي لكل من يلتقيه بأنه يكسب حياته بشكل جيد، ولا ينقصه شيء، أو يبدو عليه أن هناك ما يميزه عن الآخرين من أصدقائه الذين كانوا يعملون في الصحافة غير مسحة من الحزن التي رافقته من لحظة الولادة في حزيران/يونيو في العام 1967 على طريق القدس عمّان، وهو أسرّ لي بذلك مع أن شهادة ميلاده تقول أنه ولد في مدينة مأدبا في الأردن.

أكثر الفترات التي تعرفنا فيها على بعضنا البعض، جهاد وأنا، هي سنة عملنا في مجلة "بيت الشعر" التي أسستها في أبوظبي في شباط/فبراير 2012، بمعية الشاعرين حبيب الصايغ وابراهيم محمد ابراهيم، وتوليت فيها منصب مدير التحرير. تلك المجلة صدرت عن مركز الشيخ سلطان بن زايد، وشارك في العمل أيضاً الشاعر عبدالله أبو بكر والشاعرة رنا زيد. وانتقل جهاد من الشارقة ليقيم في أبوظبي وسكن بجوار سكني في منطقة النادي السياحي، وكانت تلك الفترة حافلة بالمتعة والمرح، حيث كنا نقضي وقتاً طويلاً ونحن نتحاور في اختيار مواد العدد وتوزيع التكليفات ومتابعة التحرير والإخراج. وقمت بتصميم ماكيت خاص للمجلة الشهرية التي اثارت أصداء طيبة لدى صدورها كأول مطبوعة عربية تزاوج بين الشعر وأجناس الإبداع الأخرى. وشارك فيها كتّاب عرب بارزون، وافتتحنا عددها الأول بحوار خاص مع الشاعر أنسي الحاج. ومن الذين كتبوا فيها بصورة منتظمة حسن نجمي، نوري الجراح، صبحي حديدي، عبد الزهرة زكي، ديما الشكر، خالد القاسمي، محمد بنيس، يوسف عبد العزيز..الخ.

كان أول تحقيق كتبه جهاد في العدد الأول عن صديقنا المشترك الشاعر الإماراتي احمد راشد ثاني، الذي رحل في فبراير من تلك السنة، وأذكر أننا استنفرنا جميعاً من أجل إصدار ملف خاص يليق بأحد أهم شعراء وكتّاب الخليج، وكان جهاد من بين أكثر الأصدقاء قرباً من أحمد راشد الكاتب المتعدد، الشاعر والمسرحي والباحث التراثي، ولذلك كلفناه أن يسافر إلى مسقط رأس الشاعر في خورفكان ويلتقي مع عائلته، فكان تحقيقاً استعادياً بديعاً، استرجع من خلاله تركيب رحلة أحمد راشد من الولادة إلى الموت، وأشرك العائلة في تفاصيل العمل الذي كتبه بحب شديد، كناية عن وفاء لأحمد الذي كانت وفاته صدمة لكل من عرفه. ويمكن لي أن أتوقف هنا عند جهاد كصحافي ثقافي وكاتب ومترجم، بوصفي مدير تحرير المجلة، وجهاد أحد محرريها. وقبل كل شيء كان متحمساً للتجربة مثل البقية ابراهيم محمد ابراهيم، عبدالله ابوبكر، رنا زيد، والمخرج المبدع الرسام السوداني ناصر بخيت. وبرز جهاد صحافياً ثقافياً محترفا بمعايير الصحافة المتخصصة، ويبدو أنه تأسس على ذلك خلال عمله في الصحف الأردنية، وحين عمل في الإمارات أبان عن كفاءة مهنية وتمكن من أدواته، لديه قدرة على التأقلم ومتابعة الأحداث الثقافية، وشارك في مجلة "بيت الشعر" بوصفها تجربة جديدة في الصحافة الثقافية، وكان له رأي في هذا المجال ومساهمات قيمة حتى مغادرته المجلة في عددها الرابع ليرجع إلى الشارقة ويلتحق بالعمل في صحيفة "الاتحاد" في مكتب دبي. وهناك سمح له الوضع المادي المريح بتأسيس حياة جيدة في الشارقة كانت ستكون ثرية على مستوى الكتابة لو أن مرض السرطان لم يهاجمه، ويقطع مشواره الذي كان يعِد ببداية جديدة ومختلفة. وعاش جهاد تجربة الصراع مع المرض في مد وجزر، وقبل أن يغلبه المرض في تشرين الثاني 2015، دخل في مساجلات مع القصيدة، شرح فيها حاله وترحاله وحبه للحياة التي أراد أن يهندس مكانه فيها بأناة شديدة مثل اولئك الذين يشتغلون المنمنمات بتؤدة وصبر، اليتامى الذين ولدوا في الأوقات الضائعة، وأنفقوا حياتهم وهو يبحثون عن أرض للإقامة.

تواعدنا في لندن ولم يأت بسبب التأشيرة، ومن ثم في باريس حين كان مدعواً لقراءت شعرية يعول عليها كثيراً في بناء جسور مع شعراء العالم، ولم يحضر، وكان المرض قد استبد به، وكتب لي: "لن أحضر إلى باريس أنا بلا صوت أبداً، فلا حشرجة أو حتى همهمة، وأتفاهم مع من هم حولي كتابياً. ولا أعرف متى سأغادر هذا الشرك الذي اسمه السرطان أم أنني لن أغادره أبداً". وكتبت له: بل سوف تستعيد صوتك وتذهب للمشاركة في مهرجان "سيت" للشعر، في جنوب فرنسا، كما حصل في العام الماضي، لكنه لم يتمكن وسقط قبل الشوط.

ديوان جهاد الأخير هو "تمثال مخمور" وقد توصل إلى هذا الاسم من خلال استفتاء الأصدقاء عبر "فايسبوك". كتبه على جرعات متفاوتة، وخلال تنقله في مدن مختلفة، ولذلك تنعكس في قصائده أمزجة عديدة، ونظرات حياتية يغلب عليها تأمل الشاعر الذي عاش سنواته الأخيرة في حال من الضيق الحياتي. لكن ديوانه المعبّر أكثر، صدر قبل ذلك بسنوات، تحت عنوان "ما أمكن خيانته ويسمى الألم". لقد كانت النبوءة معكوسة، وحصل أن الألم خان الشاعر خيانة موصوفة، وفي لحظة كان استكان فيها إلى حالة من المصالحة، وبدأ يظن أنه جاء الوقت الذي سيرتاح فيه من شقاء البحث عن عمل دائم وتكوين بيت بمثابة مستقر. وكانت سنة جهاد مع الألم معركة الأمل الأخيرة. وظن أكثر من مرة أنه هزم المرض، وكتب ذلك في صفحة "فايسبوك"، واستعد للعودة إلى بيته في الشارقة وعمله في دبي والأصدقاء الذين كانوا ينتظرون أن يفوز الشاعر الذي خانه الجسد "قبل أن يبرد الياسمين" (عنوان أحد دواوينه).

كتب في قصيدة له  بعنوان "بورتريه شخصي" ما يشبه حكمة الحياة الأخيرة:
سواء عليها،
أغسلها مطرٌ أم كنسَتْها الريحُ
سوف تفترق الخطوة عن العتبة.
ولا لزام على الشجرة
أنْ تمسك بظلّها إلى الأبد،
كذلك الفراغ من الشكل.
في آخر الأمرِ
ينسى المرء اسمه
إنْ ما كفّ عنه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024