كنائس القسطنطينية التي تحولت إلى مساجد عثمانية

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/07/28
الى جانب أيا صوفيا، تضم مدينة إسطنبول سلسلة طويلة من الكنائس البيزنطية التي حولتها السلطات العثمانية إلى مساجد في القرون الماضية. تقع الغالبية العظمى من هذه المساجد في مديرية الفاتح التي تمثل معظم شبه جزيرة القسطنطينية التاريخية، وقد أخرجت بعثات التنقيب من بعض منها العديد من الحلل التزيينية الأثرية البديعة.
في "المطالع البدرية في المنازل الرومية"، تحدث محمد العامري الغزي الدمشقي مطوّلا عن القسطنطينية، ووصف أيا صوفيا، وأضاف: "وبها مسجد آخر كان كنيسة أخرى، يقال له أيا صوفيا الصغرى، ذو أبنية غريبة وأشكال عجيبة، ولكن ليس كالذي سبق ولا يقاربه ولا يناظره في جلالته ولا يناسبه، فما كل صهباء خمرة، ولا كل حمراء جمرة، ولا كل سوداء تمرة".

يُعرف هذا المسجد اليوم باسم "جامع آيا صوفيا الصغير"، ويقع على مقربة من حي كوم كابي، أي حي بابة الرمال الشهير بقصوره التاريخية الخشبية، وهو في الأصل كنيسة القديسين سركيس وباخوس التي شيُدت قبل أيا صوفيا بفترة وجيزة في القرن السادس، وقد ظلّت على حالها إلى أن حوّلها إلى جامع صاحب "دار السعادة" حسين آغا، وذلك في مطلع القرن السادس عشر، في عهد بايزيد الثاني، ثامن سلاطين بني عثمان. ونقع على ضريح صاحب "دار السعادة" حسين آغا في ساحته. تعرض هذا المسجد لزلزال في 1948، وتعرض لزلزال آخر في 1763، رُمم وحُدّث في القرن التاسع عشر، كما بنيت له مئذنة حديثة في 1955، وهو اليوم من جوامع إسطنبول الشهيرة.

من الكنائس البيزنطية التي تحوّلت إلى جوامع، نذكر كذلك "جامع زيرك كليسة"، أي جامع كنيسة زيرك، وهو من حيث الضخامة ثاني أكبر صرح ديني بناه البيزنطيون بعد أيا صوفيا، ويتكوّن من كنيستين ومصلّى، ويقع في شارع أتاتورك، في حي زيرك. اكتمل بناء هذا الصرح في عهد يوحنا الثاني كومنينوس، في القرن الثاني عشر، وحمل اسم المسيح الضابط الكل، وتعرّض للضرر اثناء حكم الفرنجة للمدينة، وعند دخول العثمانيين، استُخدم كمدرسة أطلق عليها اسم الملا زيرك محمد أفندي. رمّم المبنى بشكل كامل في القرن الثامن عشر، واعيد ترميمه في منتصف القرن العشرين، واكتُشفت أرضيته الأصلية أثناء أعمال الترميم، وتحوّل إلى جامع حين افتتح ركن للعبادة فيه، ويتميّز اليوم بمئذنته الوحيدة وبقببه الخمسة، ويشكّل نموذجا مهما للهندسة المعمارية البيزنطية في القسطنطينية.

إلى جانب هذا الجامع، نقع على عدة جوامع تمثل كذلك الهندسة المعمارية البيزنطية الكلاسيكية، ومنها جامع عتيق مصطفى باشا، جامع كوجا مصطفى باشا، جامع اسكي امارت، جامع جول، جامع قلندرخانه، جامع فيفا، وجامع بودروم، وجامع أودالار. كان جامع عتيق مصطفى باشا كنيسة بنيت في منتصف القرن الحادي عشر، وحملت على الأرجح اسم القديسة تقلا، وفي أوائل القرن السادس عشر تمّ تحويلها إلى مسجد على يد كوجا مصطفى الذي شغل منصب الصدر الأعظم بين عامي 1511 و 1512. تعرّض هذا الصرح لحريق كبير في 1729، كما تعرّض لزلزال أدى إلى سقوظ مئذنته في نهاية القرن التاسع عشر. أعيد افتتاحه في السنوات الأولى من القرن العشرين، ورُمم في 1922، وعثر المرممون أثناء هذه الحملة على حلل رخامية بيزنطية تم نقلها إلى متحف إسطنبول. استمرت أعمال التنقيب في العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن حلل أخرى نُقلت كذلك إلى متحف إسطنبول. ونقع اليوم على بقايا صور جدارية في الجهة الجنوبية من الجامع عُثر عليها في 1957، وتمثّل القديسين قزما ودميانوس ورئيس الملائكة ميخائيل.

كان مسجد كوجا مصطفى باشا كنيسة شّيدت في القرن الخامس على اسم القديس اندراوس الكريتي، وفيها أنشأ الشيخ شبلي أفندي تكية خاصة بأتباع الطريقة الخلوتية، وذلك تحت إدارة الولي الصالح سنبل افندي. ونقع على أضرحة كوجا مصطفى باشا والشيخ شبلي وزوجته صفية خاتون في ساحة المسجد، كما نقع على ضريح سنبل افندي على مقربة من الجامع، ونجد جبانة صغيرة خاصة بشيوخ الطريقة الخلوتية خلف المبنى. ومن هذا الصرح، خرج إطار باب المدرسة الكبير ودخل متحف إسطنبول، وهو من المرحلة البيزنطية. أما جامع اسكي امارت، فهو في الأصل كنيسة باسم "المسيح الذي يرى كل شيء"، وتمثل فن العمارة البيزنطية في المرحلة الوسيطة، وقد حوّلها الفرنجة إلى كنيسة كاثويليكية، ثم حوّلها العثمانيون في مرحلة مبكرة إلى مجمع ضمّ زاوية ومدرسة، وفيها تمّ تدريس القرآن حتة 1970. نصل إلى جامع جول، أي جامع الورد، وهو في الأصل كنيسة القديسة ثيودوسيا التي شيّدت في القرن الحادي عشر، وكانت ممتلئة دوماً بالورود، وذلك لإكرام القديسة التي حملت اسمها. صادر السلطان أحمد الأول هذه الكنيسة في مطلع القرن السابع عشر، وجعل منها جامعا، وبدّل من معالمها دون المس ببنيتها الأصلية.

في هذا السياق، يبرز جامع قلندرخانه، هو كنيسة بيزنطية تعود للقرن الثاني عشر الميلادي تم تحويلها إلى مسجد في عهد محمد الفاتح. تظهر الأبحاث ان هذه الكنيسة شيّدت فوق أنقاض حمام من الحقبة الرومانية بُنيت فوق أطلاله في القرن السادس كنيسة متواضعة. اتسعت هذه الكنيسة في القرن السابع، وأعيد بناؤها بشكل كامل في القرن الثاني عشر. صادرها الفرنجة لحساب الرهبنة الفرنسيسكانية، ووهبها محمد الفاتح في مرحلة لاحقة إلى أتباع قلندر يوسف، صاحب الطريقة القلندرية، وباتت جامع قلندرخانه في القرن الثامن عشر. جُدّد هذا الجامع مرارا في القرن التاسع عشر، غير انه أُهمل في العقود الأولى من القرن العشري وخرب. رُمم في 1970، وسمحت أعمال الترميم بالكشف عن رسوم بيزنطية عديدة كانت تزينه في الماضي، كما سمحت بالكشف عن رسوم من الحقبة الصليبية تمثّل القديس فرنسيس، وهي أقدم رسوم معروفة لهذا القديس الذائع الصيت. وقد نُقلت هذه الحلل إلى متحف إسطنبول قبل إعادة افتتاح الجامع.

في المقابل، كان جامع فيفا كنيسة من القرن العاشر تحمل اسم القديس ثيودوروس، وقد تحوّلت إلى جامع على يد أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني شهاب الدين الشافعي، وهو عالم من أهل التفسير عهد إليه السلطان مراد الثاني بتعليم ولي عهده محمد الفاتح. وقد كشفت أعمال الترميم عن الزينة الفسيفسائية المسيحية التي تغطي قبب المبنى الثلاثة، وتم التقاط صور لهذه الزينة قبل إعادة تغطيتها بطبقة من الطلاء الشفاف في 1979. أما جامع بودروم، فهو في الأصل كنيسة من القرن العاشر شيدها الإمبراطور رومانوس الأول. حوّل بايزيد الثاني هذه الكنيسة إلى جامع، وتعرض هذا الجامع مرارا للحرائق، وخرب بشكل كامل في 1911، ورمّم بعدها بشكل جزئي في 1950، ثم رمّم ثانية في 1986، واتحذ شكله الحالي. يبقى جامع أودالار، وهو كنيسة عثر المنقبون فيها على مجموعة من الجداريات في 1934، وبعض هذه الجداريات محفوظ في متحف إسطنبول.

في هذه السلسلة الطويلة يبرز بشكل خاص موقعان يحتلان منزلة رفيعة في خريطة الفن البيزنطي. الموقع الأول هو كنيسة خورا التي تقع في حي أدرنة قاب، في الجزء الغربي من منطقة الفاتح، وكانت تُعرف باسم "المسيح أرض الأحياء"، وقد حُولت إلى جامع سنة 1511 من قبل الوزير الكبير عتيق علي باشا الذي أضاف إليها مدرسة، ومن ثم إلى متحف في عام 1948، وتحتوي على مجموعة هائلة اللوحات الفسيفسائية والرسوم الجدارية تختزل جمالية الفن البيزنطي بأبهى صوره. أما الموقع الثاني، فهو جامع الفاتحية، وكان في الأصل مقرا للبطريركية الأرثوذكسية في العهد البيزنطي الأخير، وقد صادره السلطان مراد الثالث في 1587، وجعل منه جامعا أطلق عليه اسم الفتح بعد انتصاره في جورجيا وأذربيجان. وشيدت مدرسة خاصة به تحيط بساحته من ثلاث جهات.

أُهمل هذا المبنى ودخل في النسيان إلى أن رُمم على يد بعثة أميركية في 1949، وهو مؤلف من جامع ومصلى جنائزي يحوي مجموعة بديعة من الألواح الفسيفسائية كشف عنها المنقبون. بقي الجامع مفتوحا للصلاة والعبادة، وتحوّل المصلّى إلى متحف يحوي مجموعة من الألواح الفسيفسائية توازي بأهميتها تلك المحفوظة في متحف جامع كنيسة خورا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024