مال الثقافة

روجيه عوطة

الأربعاء 2020/02/05
في كل مرة، يدور الحديث حول الإنتاج الثقافي، تتقدم الاشارة إلى علاقته بالمال كأنها تنم عن جرأة في القول. إذ تبدو كأنها تكشف عن مستور ذلك الانتاج، أو تنظر في جزئه المعتم. ما يجعل التساؤل عن موضع المال في مجال الثقافة، وبين شغيلته على العموم، ضرورياً.

بدايةً، أن يكون التطرق إلى علاقة الانتاج نفسه بالمال ضرباً من الجرأة، فهذا يعني أن التطرق إليها ممنوع من الصرف كلامياً في مجال الثقافة. وهذا المنع، الذي يجعل من المال مادة مكتومة الوجود في ذلك المجال، ليس منعاً على الطريقة القديمة، التي كانت تحظر دخول المال إلى المجال اياه -وقبل أن يصير مجالاً بالكامل- بالتوازي مع جعله مكروهاً. فهذا المنع لا يتعلق بتنزيه الثقافة عن "المادة"، لتصير ترفعية بامتياز، اي لا يتعلق مباشرةً بتلك النظرة إلى الثقافة، التي كان فرنسوا بيغودو ذات مرة قد وصفها بالارستقراطية. إذ يرتبط بأمور أخرى، وفي مقدمتها، استثمار ذلك المجال من قبل الطبقة البرجوازية، بمعنى انتقالها ونقل امتيازاته إليها، بفتح مؤسساتها، أياً كانت، فيه. وأيضاً، بمعنى إقرارها لنمط العيش داخله على محاكاة نمط عيشها، الذي لا حديث فيه عن المال بطريقة إشكالية، لأنه مُكتفٍ به، ولا ينقصه، وهذا، بالتوازي مع كونه نمطاً لا يقوم سوى بمراكمته، وبالحرص عليه.

وتعميم نمط العيش ذاك، بين شغيلة الثقافة، يحملهم على الإقلاع عن الحديث عن المال، وهذا ما يؤدي إلى ما يشبه تخبئة وضعهم الأساس، وهو هشاشة المُعاش. فهم يؤدون ذلك النمط، الذي لا يجب أن يشوبه الحديث اياه، ففي حال حصل هذا، يبدو علامة على عدم التزامهم به، أي ابتعادهم عن طبقته، وبالتالي، عن الثقافة كما تريدها. بعبارة أخرى، هؤلاء الشغيلة يقاسون الهشاشة، لكنهم لا يتناولونها، لأنهم، إن فعلوا، هم لا يتحدثون فقط عن مالهم، إنما، والإضافة إلى هذا، يؤكدون نقصه لديهم. فلا يكون الحديث عن المال وحده معاكساً لتأديتهم نمط العيش ذاته، بل، ونقصه، الذي يسعون إلى سده، لكن، بلا أي كشف عنه، بل بإخفائه، تماماً، كما لو أنه نقيصة.

على أن الإقلاع عن الحديث عن المال، يتعلق أيضاً بدورانه بين الشغيلة، وهذا، بما هو حصيلة دعم مؤسساتي لهم. فلا يتطرقون اليه لأن القانون بينهم، ومنذ زمن بعيد، صار مستوياً على التسابق، على كون كل منهم يريد أن يسابق غيره على دعمه المالي، على مصدره، وبهذا، يخفونه عن بعضهم البعض. فيدور المال بينهم، ويحدد مُعاشهم، وشيئاً فشيئاً، جميع صلاته، بلا أي تناول له، كما لو أنه لا يدور البتة، أي كأن إنتاجهم يحصل من دونه، أو أنه مفكوك عنه. وهذا، على الرغم من التزاحم  في "البحث" عن مصادره.

وفي هذه الجهة، لا بد من ربط الإقلاع عن الحديث عن المال، بما هو حصيلة دعم، بكون الإنتاج، الذي يؤدي اليه، لا يرجع منه. بمعنى أن هذا الإنتاج غالباً ما لا يدرّه بعد استخدامه له، وإن درّه، فبطريقة شحيحة. بالتالي، يبدو هذا الإنتاج كأنه يأخذ المال، ليبدده. لذا، فالإمتناع عن تناول هذا المال، هو إمتناع عن تناول ما هو قريب من تبديده. وفي الجهة عينها، ثمة امتناع عن التناول اياه لتلافي تناول وقع مصدر المال على الإنتاج، الذي، وخصوصاً لأنه ثقافي، يُقرَن على الدوام بحرية مزاولته، أو بالأحرى تُقدم هذه الحرية على أنها قوامه. وعلى هذا النحو، تلافي تناول وقع المال عليه هو تلافٍ لتناول تقييد حريته، أو هو تقويض لقوامه، ليصير محدد المسار، كشكل ومحتوى، سلفاً.

بعد ذلك، من الممكن القول أن منع الكلام عن المال في الثقافة يتعلق بـ: التزام الشغيلة بنمط العيش البرجوازي كأنه نمط الالتزام بالثقافة نفسها، التي حولتها طبقته إلى مجال لاستثمارها، الخضوع لقوانين هذا الاستثمار، وعلى رأسها القانون التسابقي حيال الدعم، المكابرة على وضع الإنتاج، اي إحجام عن البحث في شأنه، لا سيما من ناحية اختزاله بتلبية طلب او ايعاز مؤسساتي فقط لا غير.

كل هذا، يجعل من الكلام عن المال في مجال الثقافة جديراً بالممارسة، بحيث أنه يفلت شغيلته من نمط العيش البرجوازي داخله، مثلما أنه لا يخبئ هشاشة مُعاشهم، بل يحولها إلى مشكلة ملحة. كما أن هذا الحديث يخفف من وطأة القانون التسابقي، بحيث لا يعود دائراً في الظلمة، وبالتالي، يشرّع السبيل لنقل الإنتاج إلى مرحلة أخرى.

اختصاراً، الكلام عن المال يبين أن مجال الثقافة مدمّر، وهذه الابانة بعينها، هي سبيله الى نقله من مجال طبقة أطاحته، إلى مجال لشغيلته، إلى مجال بنائيه.

لكن، أي كلام عن المال؟ فنهاية، لا يتكلم مجال الثقافة عن المال أيضًا، لأنه لم يعتد سوى ذلك الحديث عنه، أي الذي يجعل منه رباً معبوداً، إما بطريقة مكتومة، أو بطريقة وقحة، كما يفعل محدثو النعمة. وهو ما يستلزم حديثاً آخر، لا يخفي تلك المادة، أو يستعرضها، بل يبحث في موضعها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024