"جماعة" الأسد في مأزق عنفيّ: ماذا بعد خسارة الضحية؟

أدهم حنا

الإثنين 2021/10/11
تتزايد أعمال العنف الاجتماعيّ في سوريا؛ فخلال أسبوعٍ واحدٍ استخدِمَ ما يزيد عن خمسِ قنابل في حوادثَ قتلٍ مختلفةٍ؛ أو بالأحرى في حوادثَ القتلِ الاجتماعيَّة؛ كونها ناتجةً عن طبيعة علاقات خاصَّة لا تخصُّ صراعاً للسلطة من حيث أسبابها. في موضعٍ ما، يخضع العنف في سوريا إلى شبهاتٍ اجتماعيَّة طائفيَّة؛ فيبدو أن للعنف وجوهاً أدواتيَّة كلاسيكيَّة؛ فأنواع الأدوات المُستخدمة في القتل تشيرُ إلى تنوُّعِ ظواهر العنف في سوريا التي تبدو عموميَّة وتقليديَّة أحياناً. والأدوات مثل السكين، تختلف في التصنيف الجرمي والقانوني بين السكين الحربيَّة، والسكين المنزليَّة، وسكين العمل.

في ظواهرَ وأدوات عنفٍ أخرى، يبدو المجتمعُ أكثر ثقافةً في ما يتعلَّقُ بأسلحةِ القتلِ؛ القنابل والرشاشات والأسلحة الحربيَّة عموماً تشير أيضاً إلى ظاهرةٍ في القتل ذات دلالة على أدوات السلطة والدولة الحديثة. ويسود اعتقاد غير يقينيٍّ بأنَّ الأدوات الحربيَّة التي تُستخدم في جرائم القتل الاجتماعيّ تدلُّ على جماعات معيَّنةٍ في سوريا، أو على سلطة قمعيَّة كالسلطة السوريَّة التي تمتلك الجهاز البيروقراطي والمليشيات المرخصة، والأهمُّ أنَّها امتلكت شريكاً اجتماعيَّاً في قيادتها للعنف الحكومي. خمسُ قنابل استخدمت في الساحل، وأكثر من عملية قتل خلال شهر واحد بعبوة ناسفة داخل جهازٍ طبِّي، واستخدامُ أسلحةٍ ثقيلة لتصفيات اجتماعيَّة مختلفة.

لم يلجأ النظام إلى ثقافة العنف مع بعض المنتمين الى الطائفة العلوية، بل كانوا جمهور العنف. ما تسميه حنَّة أرندت اللامبالين أحياناً؛ إذ إن النظام يقتاد العنف نحوهم في الوقت نفسه الذي يجعلهم فيه لامبالين بحجم القتل الذي يقوم به، أو حتى في دعوتهم إلى المشاركة فيه من منطلق خوفهم. لوقتٍ ما، حقق النظام للعلويين فكرة مفادها أنَّهم حماة الدولة؛ الدولة بمعنى الأمان والاستقرار الذي يستلزم عنفاً هائلاً لإعادته، وبوصفهم شركاء أو حماة حققوا لا مبالاة اتجاه العنف، ثم كانوا جزءاً منه.

حسب رينيه جيرارد، تحتاج الدولة الحديثة إلى عنف، لكن ضمن آلية؛ آلية اختيار جماعةٍ يقع عليها العنف، الأمر الذي يحتاج إلى بُعدٍ اجتماعي في اختيار جماعة ضد جماعة أخرى، ضمن شرطٍ جوهري؛ بأن يكون العنف الموجَّه هو عنفٌ خلاصي أو مخلِّصٌ لها. ويقول جيرارد إن عُنف الدولة خُلق في المرحلة التي كان فيها المَلك يحاول ألا يكون ضحيةً لمَلكٍ آخر؛ وهذه الأداة يستخدمها النظام جيداً، في أن يحول رأسه وسلطته، إلى عنفٍ يُمكن ابتلاعه اجتماعياً من جهة، ويبعده من دائرة الاستهداف من جهةٍ أخرى. جيرارد يتحدث عن نقل العنف كآليةٍ حتميةٍ لوجود المجتمع تحت وطأة فكرة الضحية، في مواجهة المقدس المتمثِّل في هيئة الدولة.

خلق النظام العنف ليس من أجل توازن وجوده فوق المجتمع كحارس وحشي فحسب، بل من أجل الأمان والاستقرار، ومن خلال جعل العنف مركباً آلياً تقنياً، تحرسه جماعة في وجه جماعة وكأنه ضرورة لا غنى عنها. ومثل كل حرب أهلية لا تملك نهاية عادلة، فإنَّ جماعة النظام تملكوا عنفاً جعله النظام وسيلة حماية للدولة، ثم حماية للجماعة في آن واحد، والتضحية التي سوَّغها قد تحققت، لكن ماذا بعد خسارة الضحية؟

هُمِّشَت الضحية الآن، والمقدس بات منعزلاً عن الجماعة العنيفة التي أسست للمفارقة. النظام امتلك قدرةً على الاختفاء من يوميات ومشاعر الجماعة التي دخلت في حلقةٍ عنفٍ مغلقة وإن انتصرت فيها. وما بات مقبولاً منها اليوم هو كتلة من المشاعر التي لا تملك حِساً سوياً، بل تحتاج إلى انتماء مشاعريٍّ حادٍّ.

لم تتوقَّف ثقافة الضحية عن الانتشار ونشر العنف، والحرب الأهلية قد انتهت على أبشع ما توقعه السوريون؛ فالنظام فارق الجميع، وبات طبقة اقتصادية قروسطية، واختفت مفاصل الدولة التوسعية الراعية بكل أشكالها من سورية، ولم يبقَ للجماعات العنيفة سوى السلاح الذي في يدها؛ فانتقل عنفها الموجَّه إلى جماعةٍ أخرى، إلى الجماعة نفسها؛ وكما يقال: انقلب السحر على الساحر.

وفي جانب منه، يبدو العنف "عاطفياً"؛ فضابطٌ يُرسل صاعقاً متفجراً إلى طبيب لأنه يُحب خطيبته، والقنابل باتت تُرمى في الشوارع على أصغر خلاف؛ ما يظهر الطبيعة الخلافية الساذجة والتافهة للاختلاف، واستخدام السلاح؛ الأمر الذي يعبّر بصورة غير مباشرة عن افتقاد كبير للأضحية الحقيقيّة؛ أضحية قيميَّة تخلقها السلطات وتروج للعنف ضدها؛ ليرتدَّ العنف إلى شكلٍ آخر فرديّ رديء. لقد استحال عنف النظام لوقت طويل بوصفه يملك مقومين؛ التقسيم الإداري وقيادة العنف من جهة، وخوف الجماعة التي سلحها النظام من جهة أخرى. وحينما انتهى هذا، لم يستطع النظام إدارياً سحب السلاح؛ فبات السوريون جماعتين؛ إحداهما ما زالت تملك سلاحاً، والثانية مجردة منه.

إنَّ نظاماً تعسفيَّاً مثل النظام السوري هو بالضرورة مستفيدٌ من هذا الوضع؛ فهو بعيد أولاً من الطائفية لأنَّ الجماعة العنيفة التي استخدمها في بثِّ العنف، تأكل نفسها بهذا العنف من أجل تفريغ واستخدام ما حُقنت به من وحشية وتعطِّشٍ للأذية، بعدما أصبح استخدام العنف ليس من حقها بانتهاء الحرب. أما السلطة فتقف مكتوفة الأيدي، بينما تشاهد كيف يقتات الأفراد الذين سلّحتهم بالعنف على بعضهم.

لم تعد القنبلة التي تُرمى على المعارضة والمدنيين في المناطق المناوئة للنظام، بياناً سياسياً وأخلاقياً معترفاً به من الدولة كعنف تُريده وتسوِّغه، ولا تفريغاً لأزمة سياسية، بل بات مشكلةَ مجتمعٍ عنيف يحتاج إلى تأكيد أكثر على عنف النظام وآليته الشديدة السلطوية. والسؤال الآن: ماذا سيفعل النظام مع أصحاب القنابل؟ فهل سيزوِّدهم بالدبابات أيضاً؟

هذا درس بطيء ومدروس في أن يكون المجتمع محتاجاً إلى عنفٍ أكبر وأكثر ضراوة لكي يهدأ!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024