صاحب تصميم "عليهم" لـ"المدن":كنتُ مستسلماً لليأس..نابذاً السياسة

حسن الساحلي

الأربعاء 2019/11/06
منذ بداية الانتفاضة اللبنانية، وربما للمرة الأولى منذ تأسيس لبنان، يمتلك المقيمون في الخارج القدرة على الفعل والتأثير في مجريات ما يحصل في البلاد، إن كان عبر الإحتجاج أمام السفارات الذي يُخبر السلطة أن "كتلاً إنتخابية" تثور أيضاً على المسار اللبناني المعهود، أو عبر النشاط الفاعل إعلامياً، وعبر وسائل التواصل الإجتماعي التي تعتبر مرآة للرأي العام.


شارك المغتربون أيضاً في تشكيل الهوية البصرية للاحتجاجات في الخارج، بسبب فعاليتهم في نقل وترويج الصور والفيديوهات حول التظاهرات والاحتجاجات (إضافة إلى "واتساب"). من أول التصاميم التي انتشرت خارج لبنان عن "الثورة" وتناقلتها وكالات الأنباء (تظهر فتاة وهي تركل مسلحاً في وسط جسمه)، كانت من توقيع مصمم شاب مقيم في لندن، هو رامي قانصو، والذي يعتبر اليوم من أكثر "الفاعلين بصرياً" في الثورة، ويواكب الأحداث بشكل متزامن مع حدوثها، مثبتاً أن المسافات لم تعد تعني شيئاً، والقدرة على الفعل تعتمد على رغبة صاحبها.

أنتج قانصو بعد هذا التصميم، سلسلة رسوم غرافيكية بعنوان "عليهم"، تمتلك السمة المباشرة نفسها، وتتمحور حول تيمات نسوية واحتجاجية تنادي بالنزول إلى الشارع والصمود في وجه القمع. كما اختاره مغني الراب، مازن السيد، لتصميم ملصق أغنيته الأخيرة، معززاً بذلك ارتباط الأغنية بالحدث الحالي.. بما أن أسلوب قانصو أصبح مرتبطاً بالثورة.

وهذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها قانصو بالتصميم بهدف دعم الإحتجاجات، فقد فعل الأمر نفسه في حراك العام 2015 وفي تظاهرات إسقاط النظام الطائفي العام 2011 التي شارك فيها قبل مغادرته لبنان للعيش والعمل في لندن. ولد قانصو في الدوير وعاش في صيدا حتى انتقاله إلى الجامعة. تخصص في التصميم في الجامعة اللبنانية الأميركية LAU ثم انتقل من بيروت إلى لندن في العام 2015. يعمل اليوم كمصمم في "التلفزيون العربي" (تحديداً برودكاست موشن ديزاينر) بالإضافة إلى اشتغاله الفني المستقل.
 


هنا حديث لـ"المدن" مع رامي قانصو، يخبرنا فيه عن السياق الذي ينتج فيه أعماله، علاقته بالفعلين السياسي والإحتجاجي، وتأثير العيش في الخارج في اشتغاله الفني... 


بما أني آتٍ من طبقة وسطى دنيا، فكرت عند دخولي الجامعة أن الفرع الافضل بالنسبة إلي هو الذي لا يتطلّب "واسطة" وعلاقات، بل يتم اختيار الطلاب على أساس نوعية العمل، ولذلك اخترت التصميم الغرافيكي. طبعاً كنت مهتماً منذ طفولتي بالفن والتصميم، لكني لم أكن أرى نفسي فناناً بالمعنى الفعلي، بقدر ما كنت مأخوذاً بالقوة البصرية للإسكتش وقدرته على إيصال رسائل تدعم الفعل السياسي.

ساعدتني الجامعة في ترسيخ تفكيري التعددي والديموقراطي. كنت أقرب إلى اليسار في السياسة، وساهمت في تأسيس مجموعة "الحركة الطلابية البديلة" التي بقيتُ ناشطاً فيها طوال فترة الجامعة. ترشحت مرتين للمجلس الطلابي، الأولى خسرت فيها بفارق أربع أصوات، والثانية بفارق ثلاثة أصوت. كانت شعاراتي ضد الطائفية ومع الدولة المدنية والزواج الإختياري، وساعد الخلط بين الفن والسياسة في تعزيز تفكيري التعددي وتقبل الآخر ورؤية الإنسان كمصدر للإلهام، ما سيترجم لاحقاً في التيمات التي ستطبع اشتغالي الفني عند خروجي من لبنان.



عندما غادرت بيروت كانت احتجاجات العام 2015 مشتعلة في وسط المدينة. شاركتُ في تظاهرات عديدة قبل أن أسافر، وشهدت من لندن تحول الحراك من تظاهرة تحمل إمكانات تغيير إلى مجرد حدث مطلبي هدفه حل مشكلات آنية. استسلمتُ، كما غيري، لليأس والتشاؤم وابتعدتُ عن السياسة، بعدما صرتُ مؤمناً بصعوبة التغيير في الظروف الطائفية الملتصقة بالبلد.

بعد فترة من استقراري في لندن، بدأت الدخول في أجواء عربية وتعرفت على أفراد من مجتمعات، لم يكن عندي أي احتكاك سابق مع أبنائها. صرت جزءاً من جو عربي متنوع الجنسيات، ومع أننا كنا نسمع الموسيقى نفسها: أم كلثوم، فيروز، السيد النقشبندي... لكن كل واحد منا كان مختلفاً عن الآخر، إن كان من ناحية الهوية أو من ناحية التجارب النضالية والإنسانية. من الناحية السياسية، ازددتُ ابتعاداً عن الجو اليساري الذي كنت موجوداً ضمنه في لبنان، ربما بتأثير من الإحتكاك مع تجربة اليسار البريطاني الذي كان قد حقق نجاحاً في الإنتخابات. رأيتُ كيف يدخل الناشطون البيوت ويتكلمون مع الناس، وشهدتُ المستوى العالي للتنظيم الذي تتمتع به تنظيماتهم.



انعكس هذا كله في انتاجي الفني. توقفتُ عن رسم السكيتش باليد، وركزت على الغرافيك واستعمال الألوان بشكل أكثر تعبيرية وتنويعاً من السابق. أصبح الرسم وحده مصدراً للسعادة، ولم يعد التصميم بالنسبة إليّ محصوراً في الوظيفة المرتبطة به، بل أصبح أكبر وأعمق، والطريق مهم فيه، كما الهدف.

الجلسات الطويلة مع أصدقائي والأحاديث الليلية أصبحت أيضاً مصدراً للإلهام في تصاميمي وغذاءً للروح، كما أن الليل بات موضوعاً، فالسَّمر والحب والمشاعر الإنسانية الأكثر اتقاداً هي التي يساهم الليل في تفعيلها. قرأتُ الشِّعر للمرة الأولى في حياتي، وربما كانت فترة مواظبتي على القراءة هي الأكثر إنتاجية في مساري.



كنت أشعر بالحنين أيضاً للبيئة البصرية التي عشت طويلاً ضمنها، وأقصد هنا كل ما يشكل الفضاء العام، من الأبنية العشوائية، والخط العربي في اليافطات، وأسماء المحلات، وحروف الإعلانات، وزخارف الجوامع... صارت "استعادة" البيئة العربية، ولو رمزياً، دافعاً بالنسبة إليّ لإعادة إنتاج العالم الذي أعيش فيه، وبدأت أملأ الجدران الفارغة في الأمكنة والبيوت التي كنا نمضي فيها ليالينا وأوقاتنا.

عندما اندلعت الأحداث الأخيرة، لا سيما سلسلة الحرائق، كنت مبتعداً كلياً عما يحصل في لبنان وغارقاً في عالمي. وجدتُ نفسي فجأة أمام بلد يحترق من شماله لجنوبه. كان حدثاً مخيفاً استطاع تحريك مشاعر كل لبناني يعيش في الخارج. ثم رأيت السياسيين يرمون التهم على بعضهم البعض بشكل مستفز، ومن دون أي اكتراث للمأساة الحاصلة. وشعرت بالقلق عندما قررت الحكومة زيادة الضرائب، ووضع ضريبة على "واتساب" الذي يعتبر الأداة الوحيدة لتواصلي مع أهلي. لكن، رغم هذا، لم أتوقع أن الشارع سيرفض كما فعل، ربما لأني كنتُ راغباً في الاحتفاظ بتشاؤمي السابق. 


عندما وصل فيديو الإعتداء على المتظاهرين من مرافقي الوزير شهيّب، شعرتُ بالذعر. إلا أن الفعل البطولي الذي قامت به الفتاة التي ضربت الرجل المسلح، أعاد إليّ الثقة في قدرة اللبنانيين على الفعل. بلا تفكير وبشكل عفوي، بدأت أرسم تلك اللحظة، وربما بدافع الحماسة للمشاركة بطريقتي الخاصة في ما يحصل في بيروت.

كان المشهد يقول الكثير عن كل ما أؤمن به، ومثَّلَت هذه اللحظة، المواجهة الصعبة التي يخوضها الإنسان المدني الأعزل، في مواجهة السلاح، إضافة إلى ما يخوضه المواطن اللبناني في مواجهة الموكب السياسي، وأخيراً المواجهة التي تخوضها المرأة وحيدة في وجه القمع.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024