سما عبد الهادي.. ضحية استغلال سياسي؟

حسن الساحلي

الأربعاء 2020/12/30
اعتقلت السلطات الفلسطينية منذ ايام الفنانة سما عبد الهادي، اول وأشهر منسقات الإسطوانات الفلسطينيات (متخصصة في موسيقى "التكنو") على خلفية الضجة التي أثارتها حفلتها في المبنى التاريخي "مقام النبي موسى" الذي يقع بين أريحا والقدس (وهو الذي فقد وظيفته الدينية الأساسية منذ مدة طويلة، على عكس ما أشيع خلال الأيام الماضية).

 

حصل الإعتقال رغم إعطاء وزارة السياحة ترخيصاً يسمح لعبد الهادي بإقامة مجموعة حفلات في ثلاث مواقع تاريخية فلسطينية، من بينها المقام، بالتعاون مع منصة "بيتبورت" العالمية. اختارت عبد الهادي الأمكنة هذه، بهدف التأكيد على هويتها الفلسطينية ومنعاً لاستيلاء السلطات الإسرائيلية عليها، وليس للتعدي على قدسيتها كما افترض الذين اقتحموا الحفلة مصوّرين ما يحصل على انه طقوس "عراء وكحول" (جميع الإدعاءات غير صحيحة وتخالف المشاهد التي أظهرتها كاميرات هؤلاء)، وهي الفكرة التي لم يعد من السهل إزالتها من ذهن الشارع الفلسطيني الذي اظهر استياءً واسعاً من الموضوع، لدرجة ان المئات سارعوا بعد شيوع الخبر، للصلاة بشكل جماعي في ساحات المقام، قبل أن يقوموا بحرق أثاث الفندق السياحي الموجود ضمن المبنى!

يذكر أن المقام ضخم، ويتألف من ستة مبان، تفصل بينها ثلاث ساحات. يوجد جامع صغير في أحد المباني الست، وهو بعيد من الساحة التي أقيمت فيها الحفلة. القصة المتناقلة تقول إن الحفلة أقيمت في المسجد، وهو ادعاء غير صحيح طبعاً. ووفق صفحة "حلّو عن سما" في فايسبوك: "تاريخياً هذا المبنى تحولت هويته عبر الزمن، من مقام ديني، إلى مكان تعقد فيه مهرجانات ثقافية مهمة قبل 1948، إلى مكان مهمل يتجمع فيه الشبان لتعاطي المخدرات، ثم إلى مكان يسيطر عليه الإسرائيليون، قبل إعادة تأهيله وتحويله إلى مركز لعلاج مدمني المخدرات، وأخيراً العام 2019 افتُتح بحضور رئيس الوزراء الفلسطيني ضمن خطة ثقافية بدعم من ممثلي دول أوروبية عديدة، ليصبح مركزاً ثقافياً عالمياً، علماً أنه (وحتى اللحظة) مكان تجمع للإسرائيليين ونادراً ما يتواجد فيه حضور فلسطيني (وهو السبب الرئيسي وراء تحويله إلى مركز ثقافي)". 

بُني الموقع وفق الروايات المتداولة، في عهد صلاح الدين الأيوبي، ليكون مكاناً لتجمّع الحجاج القادمين إلى القدس بعدما غيّر الأيوبي موعد رحلاتهم ليصادف الفترة نفسها التي يأتي فيها الحجاج المسيحيين من أوروبا. وتزامن بناء الموقع مع بناء مواقع شبيهة خارج القدس، لديها وظيفة جمع الحجاج القادمين من أنحاء بلاد الشام (كل مبنى يستقبل حجاج منطقة محددة)، ويقال إن تغيير توقيت الرحلات من قبل صلاح الدين الايوبي، كان هدفه زيادة أعداد المسلمين بالمقارنة بأعداد المسيحيين في الفترة نفسها، تحسباً لاستغلال أوروبا التفوق العددي من أجل تسيير حملات عسكرية لاحتلال القدس.


ربما اخطأت سما عبد الهادي عند اختيارها مبنى من هذا النوع لإقامة حفلتها، لكن وفق ما تؤكد صفحة "حلّو عن سما" في فايسبوك، هناك أكثر من إشارة تؤكد أن الموضوع ربما يكون مختلقاً بأكمله وبأن الفنانة وقعت ضحية صراع سياسي لا علاقة لها فيه، واختلاق مشهدية بهدف التأثير في الشارع الفلسطيني "بسبب التعيينات الوزارية الجديدة، التي لم يعط فيها رئيس الوزراء محمد اشتيه، وزارة الأوقاف لمحمود الهباش (يشغل اليوم منصب قاضي قضاة فلسطين الشرعيين) بل أصبح رئيس الوزراء هو القائم على أعمال وزارة الأوقاف". مع العلم أن الهباش هو أكثر من رفع الصوت حول الحفلة، مدعياً أنها أقيمت في مسجد، كما ادعى عدد كبير من المواقع والصحف الفلسطينية، وهو طبعاً غير صحيح. 

تُعرَف عبد الهادي كأحد الأسماء الصاعدة في موسيقى التكنو حول العالم، حيث تقدم بشكل دوري حفلات حول العالم، بالإضافة الى نشاطاتها بالتعاون مع منصات مثل "بيتبورت" (حفلتها الأخيرة حصدت حوالى نصف المليون مشاهد في يوتيوب). عاشت عبد الهادي جزءاً من حياتها في بيروت حيث درست في الجامعة الأميركية، ووقعت في حب أندية المدينة الليلية، التي كانت تستقبل في تلك الفترة أبرز الموسيقيين المتخصصين بموسيقى التكنو حول العالم (مثل BO18، Grand Factory، Garten ...)، لكنها تعلمت المهنة بعد مغادرتها بيروت، حيث تخصصت أولاً في هندسة الصوت في لندن، ثم عملت في مصر لسنوات ضمن مجال الصوت السينمائي، قبل عودتها إلى رام الله ومساهمتها في خلق مشهد للتكنو في المدينة.   

اشتهرت أولاً بإسم "سكاي ووكر"، وهو الاسم الذي أُطلق عليها في بيروت، ثم لاحقاً بدأت في استعمال اسمها الأصلي سما. تعتبر حفلتها مع "بويلر روم" في رام الله قبل سنوات، والتي ضمّت أبرز الموسيقيين الإلكترونيين الفلسطينيين، أساسية ضمن مسيرتها الفنية، ما ينطبق على جميع الذين قدموا وصلات موسيقية إلكترونية حينها. ثم بعد نقل الحفلة عبر الإنترنت، حصل تغيير في النظرة النمطية للمشهد الموسيقي الفلسطيني، بما أن منصة "بويلر روم" تمتلك اعترافاً عالمياً من النقاد المتخصصين في الموسيقى الإلكترونية.

ورغم تمكّن هؤلاء الموسيقيين من وضع رام الله في خريطة الموسيقى الإلكترونية اليوم، وهم يحلمون بمنافسة تل أبيب التي تجذب غالبية السياح الأوروبيين، إلا أن الطريق ما زالت طويلة عليهم، خصوصاً مع الصعوبات التي يواجهونها لإقامة الحفلات في الأمكنة العامة والخاصة، واضطرارهم غالباً لإبقاء لائحة المدعوين محدودة ضمن أوساط ضيقة، خوفاً من ردود أفعال الشرائح الأكثر تقليدية في المجتمع.

ومن العوامل التي تصعّب مهمة هؤلاء، الجهل العام بطبيعة الموسيقى الإلكترونية الراقصة، ورؤيتها من قبل المجتمع كما لو أنها طقوس "لعبادة الشيطان" أو "الجنس الجماعي"، كما كان يحصل سابقاً مع موسيقى الميتال. حتى في لبنان الذي يمتلك شهرة في السهر والترفيه، ما زلنا نشهد كل بضع سنوات، اعتقالات لشباب بسبب حفلة "ترانس" أو "تكنو" خارج بيروت يظنها أهالي القرى طقوساً للشعوذة (يعزز هذه التخيلات نمط الإضاءة الخافتة والمتحركة التي تستعمل في ساحة الرقص).   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024