حين يُثقِل المصريون على "فردوس" النظام.. أحياء وهامدين

أحمد شوقي علي

الأربعاء 2020/07/22
كمواطنين عاديين، نحن أعباء تضغط على صدر النظام المصري من دون داع، وكنت أظن أن في زوالنا –كمواطنين طبعاً- راحتنا جميعًا، لكني بعدما رأيتُ الجرافات الضخمة، وهي تهدم مدافن الموتى وتساوي مضاجعهم بالأرض، شعرت بشفقة كبيرة على الحكومة، يبدو أننا –للأسف- عبء ثقيل جدًا على كاهلها، أحياء وهامدين.
 
يوم الإثنين الماضي، قام جهاز تعمير القاهرة الكبرى، بهدم عدد من المدافن داخل منطقة "جبانات المماليك" الأثرية، بهدف إزالة 6 أمتار من أحواش المقابر، و8 أمتار من شارع الغفير، لتوسعة طريق صلاح سالم والتمهيد لإنشاء محور طرق جديد يحمل اسم "محور الفردوس"، ضمن مخطط الدولة لتطوير الطرق غربي العاصمة. وبدلًا من مباركة الخطوة والشد على يد الحكومة وتشجيع خطتها لإنشاء مصر الحديثة، أبدى عدد كبير من المواطنين (لهذا هم أعباء) غضبهم من قيام الدولة بهدم ما اعتبروه جزءاً من ميراث مصر الحضاري والأثري. ولأن الصيغة الأخيرة جعلت الأمر يبدو خطيرًا، ولأن الدولة مسؤولة رغم كل شيء، لم يترك الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى المصري للآثار، وسيلة إعلامية إلا وظهر عبرها، ليزيل ذلك الالتباس، ويكذب ما ترتب عليه من ادعاءات، مؤكدًا أن المقابر التي أزيلت ليست مقابر أثرية، وإنما لمصريين عاديين، مثل غيرهم، لا أهمية لوجودهم من الأساس.


وكدليل إضافي على حسن نيّة الحكومة، وسلامة سريرتها، أصدرت وزارة الآثار، في اليوم التالي لأعمال الهدم، بيانًا على لسان الدكتور أسامة طلعت، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بالوزارة، شرح خلاله لعامة الناس، أن الأمور لا تجري في الوزارة بعشوائية، وأن ثمة قاعدة حديدية لاعتبار العين محل البحث أثرًا من عدمه، بأن يمر على تاريخ تشييدها مئة عام فأكثر، واعدًا (يا لكَرَمه) بلجنة ستنزل للبحث بدأب بين الركام عن كل حجر متهدم يحمل طابعًا معماريًا مميزًا للاحتفاظ به في متحف كجزء من تراث مصر الحضاري الذي تدخره للبشرية جمعاء.

ولأننا أعباء، ولأننا قد نظن السوء أحيانًا (في الواقع نظنه كثيرًا) في السلوك الذي يدير به النظام البلاد، لم ننتبه أبدًا إلى أن وزارة الآثار، بقاعدتها المئوية تلك، تضع قبور السفهاء على قدم المساواة مع قبور رموز الدولة التي شُيدت أساساتها بسواعدهم أو على سيرهم. فضريح عبد الناصر شُيد العام 1965، وضريح سعد زغلول شُيد العام 1936، وضريح طلعت حرب في 1941. وهكذا، وفق قاعدة توثيق التراث بالوزارة، كلها مبان غير أثرية ويجوز هدمها إذا احتاجت الدولة أرضها في أي وقت من الأوقات، قبل بلوغها عُمر المئة طبعًا، لإدراك مساعيها التطورية.

ثم لماذا كل هذه الجلبة حول منطقة مقابر المماليك؟
مدافن، يعود تاريخها إلى سبعة قرون مضت فقط. ويصفها د.أيمن فؤاد السيد، في كتابه "التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن" بأن فيها "مجموعة من العمائر الدينية والقباب لم تجتمع في صعيد واحد مثلما اجتمعت هناك".

لكن ولو، ما نفع الأموات للأحياء؟ إن الدولة تنظر للمستقبل وتبدّيه على الماضي. ألم نكتفِ من العيش في الماضي؟ وتزيل في سبيل ذلك كل ما قد يعيقها من تقديم سبل الرفاهية للمواطن العادي، محور طرق جديد، واسمه "الفردوس"، أليس الفردوس غاية كل المؤمنين على وجه البسيطة؟ هل يوجد ما هو أنبل من ذلك؟
في الحقيقة هناك ما هو أنبل، إن الدولة التي اقتطعت من جبانة الممثل العظيم فؤاد المهندس، خلال أعمال الهدم تلك، ثمانية أمتار كاملة، من أجل مشروعها التطوري، لم تمس شبراً واحداً من قبر واحد من ألد أعداء الجمهورية، وبقايا الحقبة الملكية الغابرة، أحمد حسنين باشا، رئيس ديوان الملك فاروق، والمدفون في المنطقة ذاتها. بل وأكثر من ذلك، تركت رقيقة القلب، الدروايش تعيش فيه بسلام، فالقبر الذي بناه المعماري المؤثر حسن فتحي على الطراز المملوكي، لأحمد حسنين في العام 1946 (يعني أنه لم يمر على إنشائه مئة عام وهذا بلاغ أقدمه شخصيًا لمن يهمه الأمر)، صارت تقيم فيه (لا نسميه احتلالاً أو استباحة أو تعدياً بل إقامة) مجموعة تتبع إحدى الطرق الصوفية غير الرسمية، وتنظم "حضرة يومي السبت والخميس للعارف بالله الشيخ مسعد أبو باهي، وكذلك مولدًا سنويًا في ذكراه"، حسبما يسجل الكاتب محمد السيد صالح في كتابه "أسطورة القصر والصحراء"، من دون أي تهديد من السلطات بأي صورة كانت.

علينا أن نخجل قليلًا من أنفسنا، وأن نتطلع للمستقبل، مرة واحدة بعين النظام، لنرى حجم نبله. كيف تطوع مشكورًا للاضطلاع بعبء مصر، ماضيها وحاضرها. علينا أن نكون أكثر رحمة به، ولو لمرة واحدة، علينا جميعًا، أحياء وهامدين، أن نزول.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024