عن مشروع يرسخ الطبقية بنفي الطبقات

روجيه عوطة

الإثنين 2020/01/20
ثمة امتعاض في لبنان منذ 17 أكتوبر، مفاده الرد على أي تحليل طبقي، أو أي موقف ينطلق منه، بمقولة "لا وجود لشيء اسمه طبقات". بالطبع، هذه المقولة، وتماماً، كما الامتعاض السابق عليها، كوميدية، لكنها تصير كاريكاتورية، حين يعمد المصرحون بها إلى تبريرها بمنطق استهلاكي بائن. فيستندون إلى حجة أن "الكلام عن طبقات هو كلام قديم"، ما يعني أنه يجب استبداله بكلام "جديد"، بحيث تكون المقولة إياها هي محوره، أي ليدور حول نفي وجود أي طبقة.

بالتأكيد، لا تستدعي تلك المقولة، ولا حجتها، سوى إلى السؤال عن دافعها، أو عن كيفية تأليفها: كيف يمكن لأي كان أن ينظر حوله في البلاد، ويحسم قائلاً بأن الطبقات غير موجودة؟ ربما، الجواب المختصر هو الإشارة إلى أنه متجرد من الوعي الطبقي، لكن تجرده هذا، هو، وفي حد ذاته، إشارة إلى إنتمائه إلى طبقة بعينها، وهي الوسطى.

هذه الطبقة، كانت نتالي كانتان، وحين تطرقت إليها في العام 2016، قد سألت، وبأسلوبها الأدبي الجذل، عما العمل معها، وفي سياق سؤالها هذا، حاولت أن تحدد بعض سماتها، وعلى رأسها: الانتماء اليها، أو الاحساس بهذا الانتماء، يشترط الإقلاع عن الوعي الطبقي، أو التحلي بما تسميه الوعي اللا-طبقي، أو الوعي باللا-طبقة. بعبارة أخرى، الانتماء إلى الطبقة الوسطى يستلزم الإعتقاد بأنها ليست "طبقة"، بل أنها "العيش كما هو" في "حريته"، وفي "تخففه من الايديولوجيا"، أي، وببساطة، في انفصاله عن الواقع وحقيقته.

هذا العيش البائس هو بمثابة "مشروع" مطروح على البروليتاريا، التي، ومثلما هو معلوم، تأتي من كل الطبقات عند انكسارها. وذلك، عبر تقديمه لها كمجال لإمكانية عيشها بعد طبقاتها الماضية، والأهم، من دون أي صراع بينها. إلا أن هذا المشروع، في الحقيقة، وعندما يستقبل البروليتاريا فيه، لا يقوم سوى بنفي بَرتَلَتهم، الاحتماء منها، تأديبها، التصدي لها، أي، وبطريقة أخرى، يطيحهم كبروليتاريا. وهذا، عبر تحويلهم إلى مستهلكين بالمعنى الشامل (للمأكولات، للمشاعر، للأحداث، للأفكار، للصور، للأخبار، للأذواق إلخ.)، بحيث أن هذا الاستهلاك سبيل انتمائهم إلى طبقتهم، الذي يجعلها تظهر إليهم، في هذه الجهة، كذوات متفرقة، تتشكل بحسب سلعه وبحسب التوزع عليها. فـ"الطبقة الوسطى موجودة ذاتياً اكثر مما هي موجودة موضوعياً"، على وصف دقيق لفرنسوا هوغلو قارئاً كانتان.

على هذا المنوال، ولكي ينجح هذا المشروع، لا بد لسكانه، للمستهلكين فيه، أن يكرهوا البروليتاريا، أن يحقدوا عليهم، وهذا، من أجل طردهم كروح شيطانية منهم. إذ أنهم، وقبل انخراطهم في الطبقة الوسطى، كانوا منهم، ولهذا، لازم أن يحاولوا إقصاءهم كي لا يحيلوهم إلى ماضيهم، إنما إلى واقعهم، وبالتالي، إلى اعتقادهم بأن عيشهم بعد الطبقات، وبعد صراعها، ليس سوى وهم. مثلما أن حقدهم على البروليتاريا كناية عن صلاة يرفعونها إلى البرجوازية التي ترتفع فوق طبقتهم كتأكيد على أنهم ملتزمون بالعلاقة معها: يحمونها من البروليتاريا، وتعالج "تروما تَبرتُلهم من جديد"، أو تهدئ روعهم من إعادة تحولهم إلى بروليتاريا.

بعد ذلك، المقولة الطبقية، والحاقدة طبقياً، أي "الطبقات ليست موجودة"، وحين تصرح بها الطبقة الوسطى، فهذا، على سبيل لجمها لكل حديث يحيلها إلى الواقع، الذي تسعى دوماً إلى الفرار منه: واقع أن البروليتاريا موجودة، وأنها، وفي واقعها، بروليتارية. فتحافظ بتلك المقولة على الانتظام الطبقي، الهرمي وسواه، بنفيه، أي أنها ترسخه ببث وهم انتهائه.

"الطبقات ليست موجودة" يعني "طبقة البروليتاريا ليست موجودة"، أو بالأحرى "لا يجب أن تكون البروليتاريا موجودة"، إذ إنها، وحين تطل، كما يحصل الآن في المدن والقرى والشوارع، من الضروري ألا تتشكل وتبرز كطبقة، أو كطبقة التفردات الممكنة والخلاقة، بل تنميط المنتمين اليها، او محاولة امتصاصهم بالمعيرة الفردانية، أو فرض مختلف اطرزة الإتيكيت عليهم. فبصعودها كطبقة، ينتهي مشروع الطبقة الوسطى، يبدأ بالتفسخ والتلاشي: كل البروليتاريا الثورية داخله ستجد أن ثمة خارجاً يناديها، وأن البؤس الذي تعيش فيه، ثمة منفذ منه. فـ"ما العمل مع الطبقة الوسطى؟"، سألت كانتان، وبعدما حسمت في كونها طبقة معادية للديموقراطية الرحبة والفعلية، أجابت: الطلوع منها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024