ذلّ الأسد في حضرة بوتين... ومجد الأوسكار السوري

ياسر أبو شقرة

الثلاثاء 2020/01/14
جلس الأسد ووزير دفاعه، كالعبيد، وتواصل إذلالهم أمام المستعمر الذي يستبقيهم على "رأس" بلاد احتل حتى صورتهم فيها. ومع دفق صورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في حضرة فلاديمير بوتين، نبت ذل على جبين بلاد فقدت صور مدنها على الخريطة، وأثبت لأي متابع أن للصورة قوة يستعرض من خلالها الروس آخر احتلالاتهم للكرامات غير الثروات، بينما يستعرض النظام الفاشي قوته بصور المدن الممسوحة، والأرواح الهائمة، وجثث الأبرياء التي تداس بأقدام مصوّريه وإعلامييه، فيعلن من خلالها أن لا رحمة لمن شقّ عصا الطاعة، تلك العصا التي كسرها السوريون منذ قرابة العقد، لتبدأ فنونهم باجتياح العالم.

للسنة الثالثة على التوالي، يحجز الفيلم الوثائقي السوري مكانه ضمن لائحة الترشيحات القصيرة لجائزة الأوسكار، "آخر الرجال في حلب" لفراس فياض العام 2018، و"عن الآباء والأبناء" لطلال ديركي العام 2019، وفيلما "إلى سما" لوعد الخطيب وإدوارد واتس، و"الكهف" لفراس فياض وقد دخلا الللائحة القصيرة لهذا العام في انتظار نتائج حفلة توزيع جوائز الأوسكار في التاسع من شباط/ فبراير 2020. 


ثلاثة مخرجين، لا يجمع بينهم طريقة ولا أسلوب، لا منهج، ولا داعم، بل موت لاحقهم فاختاروا الفن نقيضاً له. وفي الوقت الذي تدعم حكومات دول عظمى صناعة السينما في بلادها، وتحاول إيصال مخرجيها إلى ما وصل إليه المخرج(ة) السوري(ة) خلال السنوات الماضية من ثبات على المنصات، استطاعت الحالة الفردية السورية، والتي حظيت باهتمام شركات الإنتاج الكبرى، أن تحافظ على مستوى رفيع من صناعة الفيلم الوثائقي، الأمر الذي يحرج الدولة السورية بأكملها، ويحرج إعلام أصدقائها مُدَّعي الممانعة، فيمنعهم من تغطية تقليدية هانئة لجوائز الأوسكار، لأن كاميرا الهاتف التي لاحقها النظام منذ أن أطلق رصاصته الأولى في صدر أول متظاهر، وحاول أن يقتل حاملها، صقلتها السنوات العجاف وباتت تصنع المعجزات لشعب طور إمكانياته الفردية رغم أساه ومنفاه.

وبين صناعة السينما، وإيجاد التمويل، وتوزيع الفيلم في الأسواق، وإنتاج الفكرة الأصيلة، والعمل على الوثيقة، والحِرفية العالية في ظل غياب أساس أكاديمي، والهرب من البكائيات وصورة البلاد النمطية التي كرسها الإعلام، تطورت حالة السينما الوثائقية السورية على صعيد صنّاعها كما على صعيد جمهورها السوري. فبات المتلقي لا يهتم لأمر الجوائز، بقدر اهتمامه لجودة الفيلم الذي يتحدث عنه، ما بات يضع عبئاً على المخرج(ة) يدفعه دوماً للأمام، لأن المتلقي اليوم صار يعرف أكثر من أي وقت مضى، أن قضيته التي دفع من روحه ثمناً لها، ليست للمتاجرة. البوصلة هي أن نقدم أنفسنا للعالم كأناس جديرين بالحياة وبالحرية، وليس بالشفقة والتعاطف. قضيتنا التي لا تمس الكثير من شركات الإنتاج العالمية، نخاف عليها أن تصبح سلعة، أو أجندة سياسية.


في فيلم "آخر الرجال في حلب" يأخذنا فراس فياض في رحلة إلى حلب نرى معها "أصحاب الخوذ البيضاء"، وهم الدفاع المدني الذي يعود لهم الفضل في إنقاذ حياة الآلاف من همجية الأسد، وفي الوقت ذاته كان قد اشتدّ سعار النظام وحلفائه ضد من يُفشلون محاولاته في إبادة المدنيين. في تلك السنة انتشرت عبر وسائل الإعلام التابعة لمحور النظام، تهويلات حرصت على تخوين هؤلاء الشبان المدنيين، وتصويرهم على أنهم صهاينة تابعون لإسرائيل في أكثر الروايات الإعلامية ابتذالاً وسخفاً. فما كان أجمل من فيلم وثائقي عمل صاحبه على تسليط الضوء على معاناة هؤلاء الشباب الذين يهرعون نحو أكثر مناطق المدينة خطورة، كي يستعدوا لانتشال ضحايا القصف، فيما هم أنفسهم أول الضحايا المحتملين، ولإسقاط الروايات المبتذلة لسفاحي الإعلام من خلال منصة الأوسكار.

أما فيلم طلال ديركي "عن الآباء والأبناء" في العام التالي، فهو الذي تكشّف معه المتلقي السوري كناقد، ولم تأخذه المفخرة بوصول السوريين إلى الأوسكار، بل رُفض الفيلم على المستوى الشعبي. إذ لم ينظر ديركي بعين شعبه، إنما بعيون المنتجين ذوي النظرة المسبقة، والأجندة السياسية، ليدخل ديركي حياة جهاديّ في ريف إدلب بهدف تصوير همجيته، بعدما اقتحم حياته كلصّ، مدعياً أنه من محبّي الجهاد. الجمهور السوري، الذي عانى من هؤلاء الجهاديين ويعرفهم أكثر من أي أحد في العالم، رأى في الفيلم أجندة غربية، لا تميز الثائر السوري بل حتى المواطن، عن الجهادي الذي صُوّر ببرود، بعدما استفزه المخرج ليقول كل الكليشيهات النمطية التي يصورها الغرب عن الجهاديين. ولم يبدُ هناك فرق بين إدلب وكابول، مدينتان لا يمكن لسوري أن يجمعهما معاً، إنما هي عين المنتجين الاستشراقية السطحية. ومع هذا الفيلم، عرف السوريون أنه يمكن أن تكون للأوسكار أبعاد أخرى، وطريق أقل احترافاً واحتراماً.

والآن، ينتظر السوريون فيلم "الكهف"، الذي يعيد فراس فياض للترشيحات بعد عامين. الفيلم الذي صُوّر في الغوطة الشرقية، عن مشفى ميداني، ويناقش ضمن مواضيعه حياة طبيبة تعاني كما يعاني أهل الغوطة، بالإضافة إلى صعوبات عملها كأنثى في هذا العالم الذكوري، هذا الفيلم مازال قيد المهرجانات ولم يخرج للصالات بعد.

أما فيلم "إلى سما" لوعد الخطيب وإدوارد واتس والذي برهن تفاعل الناس معه بعد بدء عروضه في الصالات العالمية، أنه جوهرة التاج في الإنتاج السينمائي الوثائقي السوري، الفيلم الحاصل على العديد من الجوائز العالمية، يتحدث عن علاقة حب وأمومة بين وعد الخطيب وزوجها الطبيب الميداني، ثم زواجهما في حلب، فإنجابهما الطفلة "سما"، وأخيراً خروجهم جميعاً من المدينة مرغمين. وعبر تشابك المشاعر الحاملة للعلاقات الإنسانية الرقيقة، نرى حكاية حلب التي تصورها وترويها الأم لطفلتها الصغيرة، ونعيش في فضاء المشفى الميداني مع أقسى الحالات الحرجة التي تأتي بسبب همجية القصف. أول أفلام وعد الخطيب يحصد عدداً من الجوائز والترشيحات، ما يجبرنا على انتظار الآتي منها بشغف.

وبينما يأتي العام الثالث على التوالي، ليؤكد حضور الفيلم السوري كمرشح للأوسكار، وعبر فيلمين هذا العام، يغمض النظام عينيه عما يجري، فيما تغرق المؤسسة العامة للسينما في دمشق بفسادها وعصاباتها. يغمض النظام عينيه، ويتوسل أي مهرجان في مصر السيسي، أو بقية دول الثورة المضادة، من أجل نشر بروباغندا، أبرز ما فيها هو قلة الاحتراف، ومحاولة تلميع صورة الأراغوزات المهينة، القادمة من كاميرات الروس. ومَن أغمض عينيه عن كل مهرجانات العالم ومنصاته، هيهات له أن يصنع فيلماً أو يلتقط صورة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024