بريق "الإهداءات".. السيرة السرية لنجيب محفوظ

شريف الشافعي

الأحد 2019/10/27
بغض النظر عن تحميل "إهداءات الكتب"، بأيدي مؤلفيها، فوق طاقتها الطبيعية، كأن تصنف مرة كأدب رسائل، وتوصف مرة بأنها سيرة للمُهدِي، وتارة سيرة للمُهدَى إليهم، وفي أحيان أخرى نافذة سحرية للكشف عن قصة أو حكاية حقيقية حدثت في الواقع تخص موقفًا أو أمرًا ما يربط بين المؤلف ومن يهديهم كتابه، فإنها بحد ذاتها وخارج هذه المبالغات والالتواءات تحمل قيمة فنية مجردة كإهداءات، ومادة صحافية شيقة جاذبة، خصوصًا إذا اقترنت بأسماء مرموقة تشغل القارئ.

يزداد الأمر أهمية بطبيعة الحال كون هذه الإهداءات موجهة إلى أديب نوبل العربي الوحيد نجيب محفوظ، في توقيت ما محدد، ومن شخصيات لها حيثية أيضًا ووزن وتشكل مراكز ثقل في مجالات متنوعة. وقد ذهبت أسبوعية "أخبار الأدب" إلى تسمية ما نشرته في إصدار خاص من مجموعة إهداءات جرى توجيهها إلى العم محفوظ (1911-2006)، بأيدي شخصيات أدبية ونقدية ودينية وسياسية وعسكرية ورجال قضاء وسينمائيين وفنانين ومستعربين ومستشرقين وباحثي ماجستير ودكتوراه، بأنها "رسائل أدبية"، كما صنّفتها "وثائق تاريخية" تروي جوانب مجهولة متعلقة بالكاتب المحنّك المخضرم، ورفقاء عصره.

هل ما جرى وصفه بالكنز يعدُّ أدب رسائل أم لا؟ وهل هو اكتشاف أدبي "غير مسبوق"، يخص الدرس والتحليل الأكاديمي المتخصص المتعمق، أم يندرج أكثر تحت خانة الاجتهاد الصحافي المتميز؟ من وجهة نظر طارق الطاهر، محرر الإصدار الخاص بإهداءات نجيب محفوظ، فإن أي ورقة تتضمن موضوعًا محددًا وموجهة لشخص بعينه أو جهة بذاتها، تظل تحمل كل معاني الرسائل ودلالاتها وإيحاءاتها، التي تتحول بمرور الزمن إلى وثيقة، تحتاج إلى من يُفرج عنها أوّلًا، ويحسن قراءتها ثانيًا، كما أنه في موضع آخر يعود ليقول إن هذه الإهداءات "سيرة جديدة" لنجيب محفوظ، حرص على كتمانها لسنوات طوال.

الأكثر جدية وأهمية من التوقف عند هذه التعميمات المقترنة بالدعاية والترويج للصحيفة وإصدارها، هو التعاطي مع ما تقدمه هذه الإهداءات لمعرفة إلى أين يقود، وإلى أي مدى يسهم في كشف أبعاد جديدة في حياة محفوظ وهؤلاء المؤلفين ورؤيتهم لشخص نجيب محفوظ وأدبه، فضلًا عن حقيقة احتواء هذه الإهداءات على أسرار وتفاصيل (بمعنى أنها تُنشر للمرة الأولى). 

يبقى لازمًا، على أية حال، في معرض مناقشة هذه التوصيفات والتعميمات الضخمة، التذكير بأنه من خصائص فن الرسائل بمختلف صوره الأدبية والذاتية، على تلقائيته وشخصانيته، توافر قدر من القصدية وتوقع صفة العموم، وعدم نفي الكاتب ذلك الاحتمال الوارد أن رسائله الممهورة بتوقيعه ربما تخرج إلى دائرة النور منسوبة إليه، قياسًا بما جرى من قبل على مر التاريخ، بل إنه في حالات كثيرة كان هذا الإشهار هدفًا للكاتب منذ شروعه في خط رسائله، مستعرضًا فيها أفكاره وإفضاءاته ومشاعره. أما في حالة "الإهداءات"، فمن المؤكد أن الكاتب لا يشغله سوى مخاطبة من يهديه كتابه، ومن ثم ينصبّ الحديث عما يجمعهما معًا، فقط لا غير، لا أكثر ولا أقل، وعادة ما تغلف المجاملة والكلمات الرقيقة المنمقة الإهداءات، بما يتعارض مع جوهر فن الرسائل الذي قد يعرّي الذات ويخترق الآخرين بالصدام أو الخلاف أو العتاب. 

نعم، ليس هناك مفهوم محدد للرسائل، مثلما تذهب "أخبار الأدب"، وليس بالضرورة "أن تحمل طابع بريد وختم البوسطة"، لكن هناك سمات عامة لأدب الرسائل، كي لا تختلط الأمور، للتفرقة بينه وبين سواه من أي حديث مسجّل بين طرفين، ولو كان أحدهما أو كلاهما من زمرة المبدعين، وإلا كان "التشات" الإلكتروني اليومي مثلًا بين الأدباء في عصرنا الحديث بدوره أدب رسائل، وكشفًا تسجيليًّا وتاريخيًّا حال الإفصاح عنه. 

أما من حيث توصيف "الإهداءات" بأنها "سيرة جديدة لنجيب محفوظ بأقلام آخرين، حافظ على كتمانها لسنوات طوال، واعتبرها صاحب الحرافيش جزءًا من تاريخه، يعود إليه هو في اللحظة التي يراها"، فلعله يدخل في إطار الطرافة المركّبة. فما أبعد علوم السير والتراجم الدقيقة، عن عبارات الإهداءات العاطفية المقتضبة، وإن احتوت معلومات أو أحداثًا أو مواقف بعينها تخص شخصين. وما معنى حفاظ محفوظ على "كتمان" هذه "الإهداءات" وما يتعلق بها من وقائع غير أنه يراها في موضعها الطبيعي؟ وعلى أي أساس جرى افتراض أن الرجل كان يعود إلى إهداءات الكتب المرصوصة لديه ليستقصي جزءًا خافيًا أو منسيًّا من تاريخه؟!

مما لا شك فيه، وفق ما يبرهنه "الإصدار"، أن دلالات بعض هذه الإهداءات لم تغب عن ذهن محفوظ، وهذا أيضًا أمر طبيعي، لكنه لا يثبت سيرة بحد ذاته، لولا وجود من يشرح ويحلل. ومن ذلك، إهداء مصطفى أمين كتابه "الـ200 فكرة"، إذ كتب: "إلى الأستاذ الكبير نجيب محفوظ، الكاتب الذى أعجبتُ به منذ عام 1945 وتمنيت أن يكتب قصة في أخبار اليوم، ولم أحقق هذه الأمنية التي مكثت أتمناها طوال هذه السنين. مصطفى أمين، 13 فبراير 1980". ويعلق معد "إصدار الإهداءات" مسترجعًا قصة هذا الإهداء، التي تحيل إلى رفض محفوظ في الأربعينات أن يكتب قصتين قصيرتين لأخبار اليوم في الشهر مقابل خمسة عشر جنيهًا، وذلك لإخلاصه لفن الرواية، وهو الأمر الذي فسره مصطفى أمين وقتها بأنه هروب نجيب محفوظ "الوفدي" من "أخبار اليوم" التي كانت تهاجم مصطفى النحاس آنذاك.

مثل هذا الإهداء لم يكن ليتجاوز حدود كلماته، لو كان هناك اكتفاء بالإفصاح عنه، لكن قيمته الحقيقية وتفاصيله مستمدة بالكامل من كتاب جمال الغيطاني "نجيب محفوظ يتذكر"، حيث حكى محفوظ للغيطاني كل ما دار بينه وبين مصطفى أمين، على مدار سنوات، قبل أن يخط له هذا الإهداء. وقد نسب "إصدار الإهداءات" الرواية بأكملها إلى الغيطاني، نقلًا عن كتابه الشهير، وهنا يثار سؤال إجرائي آخر حول حقيقة ما يحويه إصدار الإهداءات، من اكتشافات أدبية "غير مسبوقة"، أي غير معروفة وقائعها وتفاصيلها من قبل، على الرغم من الرجوع المتكرر إلى كتب سابقة ككتاب الغيطاني وغيره للحديث عن هذه الإهداءات.

إن ما يُحتسب لإصدار "بخط اليد وبعلم الوصول"، هو دأبه واجتهاده وإخلاصه في جمع ورصد ومحاولة تأويل عشرات الإهداءات التي تلقاها محفوظ، من شخصيات متنوعة، وهذا إنجاز رفيع في حدود العمل الصحافي الشائك والمهمة البحثية والتحليلية لفك شفرات هذه الإهداءات، لكن بوصفها إهداءات، وليس باعتبار أنها "تاريخ جديد للسيرة المحفوظية" وفق عنوان الإصدار.

من بين هذه الإهداءات المفسّرة لجوانب من علاقات نجيب محفوظ المتشعبة بالمؤلفين من سائر الأرجاء، باعتبارها على سبيل المجاز مرايا عاكسة لشخصيته وشخصياتهم في آن، إهداء فرج فودة (1945-1992) كتابه "الوفد والمستقبل": "الأستاذ نجيب محفوظ.. جريدة الأهرام، أتمنى أن يؤكد قلمي أن مصر بخير، وأن الوفد بخير، وأن عشاق قلمك العظيم بخير، فرج فودة". ويذهب مُعدّ الإصدار في تأويله إلى ظلال قناعة محفوظ في ثمانينات القرن الماضي بأن حزب الوفد قد انتهى، ولم يعد بخير، وهو ما ينافي حماس فرج فودة للوفد آنذاك، ولذلك أراد الأخير بإهدائه أن يعيد محفوظ النظر في تصوراته حول "الوفد" الجديد.

إهداء آخر من عبد المنعم النمر، صاحب كتاب "إسلام لا شيوعية"، في العام 1976: "أخى الأستاذ الكبير نجيب محفوظ، قرأت مقالك عن الإسلام وصراع المبادئ، فأعجبني ورأيت أن أعلق عليه بإهداء هذا الكتاب إليكم، لعله يعجبكم وتجد فيه تلاقيًا مع أفكارك. تحياتي عبد المنعم النمر". ويعتبره الإصدار ترجمة لالتقاء آراء محفوظ حول الدولة المدنية والدينية مع كتّاب الوسطية الإسلامية، على خلاف المتشددين والتكفيريين الذين حاولوا اغتياله لاحقًا.

على هذا المنوال يمضي الإصدار في تضمينه الإهداءات، والتعقيب الموجز عليها، القائم على الاستنتاجات أو بعض المعلومات، وفي بعض الأحوال يبدو التعليق حملًا ثقيلًا على معدّ الإصدار، فيلجأ إلى توصيفات غير ذات دلالة أو مغرقة في التهويم حدّ الأحلام والشطحات، كما في إهداء المفكر خالد محمد خالد (1920-1996) كتابه "الدولة في الإسلام" لمحفوظ في عام 1981: "الأخ الكريم الأستاذ نجيب محفوظ، مع خالص تحياتي. خالد"، وهنا يقول التعقيب المتعسف: "رسالة مختصرة، يصفه فيها خالد بالأخ الكريم، بما تحمله هاتان الصفتان من دلالات على صفاء نفس خالد تجاه محفوظ"، ويمضي معد الإصدار في تعقيبه غير المنطقي على مفردتي "الأخ الكريم" معتبرًا أنهما كافيتان لإثبات تقارب مفهومي الرجلين حول الدولة المدنية في الإسلام، بعدما كان خالد في البداية في كتابه "من هنا نبدأ" الصادر عام 1950 على عكس آراء محفوظ بشأن هذه المسألة! 

ثمة إهداء آخر، من الشاعر عزيز أباظة (1899-1973)، صاحب ديوان "إشراقات السيرة الزكية"، الذي يضم أهم أحداث السيرة النبوية شعرًا، وفيه يقول: "إلى صديقي الكريم الأستاذ نجيب محفوظ، رائد القصة المصرية الحديثة ومؤكد أركانها، ومُحكم بنائها، والبالغ بها غدًا. أبقاه الله وقواه إلى مشارفها العالمية إن شاء الله. مع ودي وتقديري. عزيز أباظة 25-6-1971"، وهنا يصل صاحب إصدار الإهداءات ومكتشف "التاريخ الجديد للسيرة المحفوظية" في تعليقاته إلى ذروة العجائبية، قائلًا: "لقد استجاب الله لهذا الدعاء، ليصل نجيب محفوظ إلى العالمية ويحصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988"!

"إهداءات نجيب محفوظ"، جهد ملموس في التجميع، وتجربة مثيرة شيقة في إماطة اللثام عن كلمات ودية حماسية زانت أعمال مؤلفين في معرض تقديمهم هداياهم إلى محفوظ، لكن تأويلات هذه الإهداءات وتحميلها فوق طاقتها على هذا النحو المريب، أقرب إلى إهالة حفنات من التراب على نجوم لامعة في الفضاء.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024