النجاة كأداة حُكم

روجيه عوطة

الخميس 2021/09/30
بعد مجزرة المرفأ، التي بدت كحدث يجسد الانهيار اللبناني، وجد فعل النجاة طريقه إلى التداول ككلمة توصّف ما يكابده المقيمون في لبنان. إذ أنهم، وفي إثر ذلك الانهيار، بمثابة ناجين مستمرين منه، اي أنهم يُرمَون، على الدوام، إلى إحراز نجاتهم، الذي يتحول إلى ما يشبه، لا نمط عيش، إنما شرطه، أو، وبالقليل من المبالغة، مبدؤه.

فعلياً، الاستناد إلى النجاة في هذا السياق يحيل، بادئ ذي بدء، إلى الجزء الأول من "تاريخ الجنسانية" لميشال فوكو، المعنون "إرادة المعرفة". في هذا القسم، يكتب فوكو هذه الجملة: "في حال كانت الإبادة الجماعية هي حلم [السلطة] الحديثة، فهذا، لا يتعلق بعودتها إلى ذلك الحق الشائخ في القتل، إنما لأنها تتموضع وتُزاول في صعيد الحياة". بالطبع، تحمل هذه الجملة مفارقة واضحة، وهي أن السلطة، التي تحلم الإبادة، هي ليست السلطة القديمة التي تحكم بالقتل، إنما السلطة البديلة التي تجعل من الإحياء أداة حُكمها. بطريقة أخرى، السلطة ذاتها، التي تريد أن تحيي -وهي التي سيسميها فوكو لاحقاً البيوسلطة- تريد أن تُبيد.

بالتالي، هناك صلة بين الإبادة والإحياء. هذه الصلة، يوضحها فوكو هكذا: السلطة، وحين تستقر على إحياء سكانها، فمن خلال إبادة غيرهم. لكن إيضاح فوكو هذا، هو فاتحة لتفسيرات أخرى لتلك الصِّلة، التي لا تعود مقاربتها تنطلق فقط من مزاولة السلطة لإحيائها مجموعاً سكانياً عبر إماتة مجموع غيره. فالمجموع نفسه، الذي تحييه السلطة، تميته، لا سيما أن احياءها له يعني قياسه كموضوع، ونظمه، وحسابه، وفي النتيجة، جعله موضوعها الذي تسيطر عليه حتى نفيه. كما أنها، وفي الوقت ذاته، قد ترتكز إلى طريقة معاكسة. أي أن المجموع إياه، الذي تميته، تعود وتحييه. فبالتوازي مع انتقالها من الإحياء إلى الإماتة، تنتقل من الإماتة إلى الإحياء.

ذهاب السلطة هذا من الإحياء الى الإماتة، له اسم، وهو الإنجاء، أي الإنقاذ. علّق الفيلسوف جورجيو آغامبن على هذا الإنجاء، حين عاد وقرأ ذلك القسم الأخير من "إرادة المعرفة"، مبلوراً نظرية فوكو حول البيوسلطة. يشير آغامبن في نص من نصوصه، إلى تغير معادلة هذه السلطة. المعادلة الأولى، التي أطلقها فوكو نفسه، كانت تفيد بما معناه، أن السلطة تقوم بإتاحة الموت، وإعمال الحياة: "دعه يحيا". أما المعادلة الثانية، فهي ليست إتاحة الموت، ولا إعمال الحياة، إنما السماح بالنجاة: "دعه ينجو". من هنا، يصير الإنجاء هو أداة حُكم البيوسلطة: لا تقتل، ولا تحيي، إنما تُنجّي. بالتأكيد، يمكن القول، وبحسب تفسير فوكو، أن استخدام السلطة للإنجاء يعني أنها تنجّي مجموعاً سكانياً من خلال إماتة مجموع غيره على أساس أنه يهدده، وهذه هي الحال كلاسيكياً في أي حرب بين بلدين. مثلما أن السلطة قد تنجي مجموعاً سكانياً من خلال إحياء مجموع غيره على أساس أنه، وحين يصير حياً، فهذا سينقذه من خطر من قبله، تماماً كما في حال إقناع شعب ما باستقبال اللاجئين تحت عنوان أن ذلك يمنع تحول هؤلاء اللاجئين إلى خطر مفترض عليه. لكن الإنجاء قد لا يستلزم مجموعتين سكانتيتَين، إنما أن سلطته تحققه حيال مجموع سكاني واحد: تكون خطراً عليهم، وفي الوقت نفسه، تنجيهم أو تتيح لهم أن ينجوا.

في هذا السياق، لا بد من التنبه إلى أن ثمة مرادفة بين إنجائها لهم، وأتاحتها لهم أن ينجوا، بمعنى انها قد تعمد إلى إجراءات توفر نجاتهم، أو تدعي ذلك (بطاقة تمويلية، تحقيق قضائي، تدقيق مالي، الخ)، أو قد تتركهم يتدبرون أمور نجاتهم بأنفسهم. في الحالتين، هي تتحقق في نجاتهم، بل إنها قد تتفاشل في إنجائهم أو لا تتدخل فيه، لكي تتركهم يبادرون إلى النجاة على أساس أن ذلك هو سبيلهم للتفلت منها. لكنها، في نجاتهم بالذات، تكمن لهم. وجود هذه السلطة في الناجين منها، اي اشتغالها فيهم، يتشكل غالباً عبر تقسيمة في مجموعهم: قسم الناجين، أو قسم الذين يمكنهم أن يبادروا للنجاة، وقسم الذين لا يمكنهم ذلك. بعبارة أخرى، قسم يمتلك سلطة النجاة المبادر اليها، وقسم لا يمتلك هذه السلطة، ولا مناص له من ابتغائها، لأنه، وإن لم يفعل ذلك، فعندها سيبدو أنه هو الخطر بعينه.

ففي حين أن السلطة تجعل من النجاة سبيلاً إلى تحقيقها أو مزاولتها، يصير الإبتعاد عن  النجاة أو عدم إحرازه، بمثابة تحدٍ أو رفض لها. فمن لا يريد أن ينجو يعصى إرادتها، كما أنه يعصى إرادة المبادرين الى النجاة الذين قد يجدون في فعله إشارة إلى اللاضرورة للنجاة.

لقد عقد شخص يدعى  كيفورك كساريان، ومنذ اكثر من ثلاثة عقود، نيته على مقاربة النجاة خلال الحرب. في أثناء ذلك، تحدث عن كيفية تلازُم النجاة مع المهانة، لا سيما حين يحمل النجاة إلى الظرف نفسه أو الخطر الذي تحقق منه. يصح القول في هذه الجهة أن هذه المهانة، التي يشير إليها كساريان، هي أثر السلطة في النجاة، إي إثر اشتغالها عبره، ليصير تحقيقه مزاولة لها.. فهل هناك ما هو مهين أكثر من أن تكون النجاة من شيء ما، انتصاراً له!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024