الجنس في السينما المصرية: كاتالوغ جديد لمفسدة الأخلاق

أحمد شوقي علي

الأربعاء 2019/09/25
ترى الشاعرة المصرية، إيمان مرسال، أن للكتب الرديئة أهمية كبيرة، ذلك أنها تدل الكاتب/ القارئ على ما يجب تلافيه عند الكتابة، وتعزز قدرته النقدية على التصنيف، ومن هذا المنطلق، يبدو كتاب "الجنس في السينما المصرية"(*)، للكاتب المصري محمود قاسم ذا أهمية كبرى.

فعلى عكس ما يطمح إليه قاسم، الصحافي المهتم بمتابعة الملف الفني، فإنه لا يمكن النظر إلى الكتاب بوصفه دراسة عن السينما أو حتى عن الجنس، والأجدر التعامل معه باعتباره كتالوغاً يجمع بعض المعلومات –المقتبسة من الموسوعات والدوريات الفنية- عن الأفلام السينمائية العالمية والمصرية، والتي يمكن للقارئ من خلالها تكوين صورة عن الوجهة التي ينظر من خلالها المجتمع المصري المحافظ إلى السينما، حيث إن المؤلف في هذا الكتاب يمثل النظرة الأصولية للسينما باعتبارها مفسدة للأخلاق.

يعلن قاسم، منذ الصفحات الأولى، وجهة نظره شديدة المحافظة تجاه محتوى الكتاب؛ حين يصرح في المقدمة –وبشكل متناقض- بأن الحديث عن الجنس ليس عيبًا، وفي الوقت ذاته يشير إلى ما قام به من مجهود لتخفيف الموضوع، إلى درجة أقل حدة من تلك التي تظهر فيها مشاهد الجنس في الشاشة، لأن مؤلفه، بحسب كلامه، هو الأول الذي يناقش الموضوع بجدية ومن دون ابتذال. غير أن تلك الجدية، بالنسبة إلى قاسم، لا تعني التنظير لتاريخ ظهور العلاقات الجنسية ضمن الدراما السينمائية، ولا الصورة التي تم تناولها من خلالها، وإنما التنظير بشكل ساذج للعملية الجنسية. أما في ما يخص مبرره التاريخي لاتجاه مخرجي السينما المصرية إلى إبراز تلك العلاقات في أعمالهم، فهو "التقليد الأعمى" للسينما الغربية، والرغبة في جذب جمهور أكبر لمشاهدة أفلامهم.

الرقص الشرقي


لا يرى قاسم، مثلاً، أي دور للرقص الشرقي في الأفلام، سوى إثارة المُشاهد جنسياً. ولم يُعط أهمية تذكر للجانب الجمالي للرقص، كفنٍّ، أو الدور الدرامي لممثلة تؤدي دور الراقصة في الفيلم. بل يفسر انحسار ظهور الراقصات دراميًا، في أفلام السبعينات، بظهور الممثلات في الشاشة في ذلك الوقت مرتديات البكيني والميني جيب، الأمر الذي أغنى –في رأيه- صانع الفيلم عن اللجوء للرقص الشرقي لإثارة المتفرج جنسيًا.

كذلك لم يضع قاسم في حساباته ما كانت عليه الحياة الترفيهية في مصر خلال الأربعينات، عندما احتلت المسارح والملاهي الليلية مساحة كبيرة من اهتمام الطبقة الوسطى، وكان للرقص بصورتيه الشرقية والغربية نصيب كبير منها، وهو ما انعكس في السينما، والتي كانت بدورها وسيلة ترفيهية أرخص تسمح للطبقات الفقيرة معاينة هذه الحياة المكلفة، إضافة إلى المساحات الثابتة التي كانت تُمنح في كل الأفلام للأغنيات والرقصات، سواء كانت شرقية أو غربية، في مسرح أو حديقة أو استوديو مغلق.

ويغفل قاسم أيضًا الدور المهم لكل من تحية كاريوكا وسامية جمال وكيتي ونيلي مظلوم، في تطوير شكل الرقص، سواء في السينما أو على خشبة المسرح.

القُبلة


ووفق الكتاب، فإن أي علاقة حسية ستظهر في الشاشة، بحاجة لمبرر قوي كي يقبل بها المشاهد. فـ"القُبلة" مثلاً، احتاجت شروطاً عديدة كي تكون مقبولة في بدايات السينما المصرية، حيث يجب أن تتم بين شابين (كفئة عمرية)، فتى وفتاة، لأن الشباب متمرد، لا وقار له كي يحافظ عليه، بينما لا يجب أن تبدر القُبلة من كبار السن لأنها ستفقدهم ذلك الوقار. وكانت درجة حسية القبلة مرتبطة كذلك، بالعلاقة الواقعية بين الممثلين، لا ما يمليه الدوران اللذان يؤديانهما، أو هكذا فسرها المشاهد، فهي مفعمة بالعاطفة إن كان الممثلان مرتبطان واقعياً بعلاقة زواج أو حب، وتبدو ميكانيكية إن لم يكونا كذلك. وربما يفسر هذا الصورة الهزلية التي ظهرت عليها القُبلة الرومانسية، في أفلام الأبيض والأسود، والتي يظهر فيها الرجل وكأنه يضغط بشفاهه على فم المرأة فيكاد يدعس شفتيها تعبيرًا عن التهاب عاطفته.

اللقاء الجنسي الأول
كذلك فإن الجنس في ليلة الزفاف، مرهون بتصورات الجمهور المتخيلة عن هكذا مناسبة، ونظرتهم الذكورية للمرأة. فالفتاة يجب أن تكون –على خلاف الرجل- خجولة في الممارسة الجنسية الأولى، على العكس منها تبدو المرأة المطلقة أو الأرملة متحكمة وأكثر جرأة ربما من الرجل الذي ستتزوجه. ورغم أن نادية الجندي –مثلاً- خالفت تلك الصورة في فيلمها "جبروت امرأة" -وهو ما لم يرصده قاسم- لكنها لم تبتعد عن التصور العام للجمهور. فهي، وإن بدت أكثر جرأة في الليلة الأولى من زواجها، فذلك لأنها –كما الحال في أفلامها- لم تظهر بالبراءة الكافية خلال مَشاهدها قبل ليلة الزفاف، على العكس بدت جريئة متمردة، وكأنه مبرر لما ستفعله لاحقًا عند انفرادها بفاروق الفيشاوي بطل الفيلم.



العلاقات الجنسية بين قوسين
ويتخذ الكاتب من المثلية الجنسية بين الرجال، موقفًا رافضًا على أساس ديني، فهو لا يستخدم لوصفها لفظ "الشذوذ" فحسب، وإنما يستخدم أيضًا "اللواط" و"يلوط" ليصف الفعل الجنسي بينهم. أما موقفه من المثلية بين النساء، فقد بدا أقل حدة في وصف تلك العلاقات التي ظهرت في الشاشة، بل يصف لوعة الفراق بين امرأتين في فيلم "جنون الشباب" على أنها طبيعية وناتجة عن فراق الأحباب، وكأنما يتخذ هنا موقفًا ذكوريًا بحتًا يرفض المثلية بين الرجال، لكنه في الوقت نفسه قد يستمتع/يثار جنسيًا إذا شاهدها تحدث بين النساء. كذلك فإنه لا يبتعد عن التصور الطبقي الذي يفترض دائمًا أن أوساط الأغنياء مرتع لكل الموبقات، حيث إن المثلية الجنسية سواء جرت بين الرجال أو النساء، فإنها تنشأ في السينما غالبًا بين أطراف –أو طرف واحد على الأقل- ينتمي للطبقات الغنية المثقفة.



بائعات الهوى
أما عن تجارة الجنس في السينما، فبيوت الدعارة ظلت أيقونة ثابتة في الأفلام التي تتناول عالم ما قبل ثورة يوليو 1952، وما قبل إلغاء الدعارة رسمياً، وذلك أن التاريخ يشكل مبررًا قويًا لظهورها في الشاشة باعتباره مسرحًا لدراما النص السينمائي. الأمر الذي يوحي في النهاية، بأن الجنس في السينما المصرية لا يُقدم باعتباره جزءًا من الحياة الطبيعية للإنسان، سواء أكان متزوجًا أو غير ذلك، ما يجعله في حاجة دائمة لكثير من التمهيد ليجد له مساحة منطقية على الشاشة، تسمح بتقبله، وكأنه لايزال حبيسًا للتصور اللاهوتي، الذي يضع الشهوة ضمن الخطايا السبع المهلكات.

غير أن ثمة أمراً جديراً بالانتباه، تبرزه الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية، والتي بغض النظر عن مستوى جودتها الفنية، اتخذت العلاقات الجنسية فيها بُعدًا أعمق من نظائرها المكتوبة مباشرة للسينما. وكان النصيب الأكبر في ما جمعه "الكاتب" محمود قاسم، يخص روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، فضلًا عن الأعمال التي قدمها بعض المخرجين الطليعيين، مثل داوود عبد السيد ورأفت الميهي ومحمد خان، والتي لم يظهر الجنس فيها مدانًا أو في حاجة إلى مقدمة منطقية كالزواج لتبرير ظهوره، وهي الأعمال التي لم يتعرض إليها محمود قاسم بالتحليل من قريب أو بعيد.

نشوة العُريّ

من جهة أخرى، يرى قاسم أن مظهر الفنان في الشاشة، ظل انعكاساً لمظهر المجتمع في الواقع، والمظهر الذي يقصده هنا هو الأزياء التي عادة ما كان يرتديها أفراد المجتمع، باستثناء الأربعينات التي عكست حسب رأيه ما دون ذلك، حيث تبارت كل من ليلى مراد وزوزو ماضي وغيرهن من نجوم تلك الفترة في كشف أكتافهن وأفخاذهن على الشاشة. لكنه سرعان ما يغير رأيه بالنسبة للخمسينات، حين يرى أن سعاد حسني –مثلاً- لم تكن ممثلة إغراء، وأن المايوه الذي كانت ترتديه، كانت ترتديه الفتيات على الشاطئ، وأن الفساتين التي كانت تظهر بها كانت مماثلة لما ارتدته المرأة في الشارع، ويستمر على هذا المنوال حتى يصل إلى السبعينات، التي بدأ المجتمع في نهايتها في الاتجاه إلى المحافظة، فيقول إنه رغم اتجاه المجتمع إلى الالتزام، إلا أن المرأة في الشاشة بدت بعيدة من ذلك وظلت محافظة على ارتدائها المايوه والملابس المكشوفة ومن دون غطاء للرأس. وكأن قاسم يعيب بشكل واضح على السينما وربما على الفن عموماً رفضه الانسياق وراء موجة المحافظة الشكلية التي أصابت المجتمع، وكأن على السينما والفن معها أن يتحجبا مثلما تحجب المجتمع... الغريب أن هذا الانغلاق الذي أصاب المجتمع المصري، وتلك النظرة الضيقة التي أصبح يرى من خلالها المرأة وسيلة الشيطان لإفساد الرجال، هما من أسباب النظرة السلبية للسينما واتهمها الدائم بأنها رافد رئيسي لإفساد الأخلاق. وهو الأمر الذي يطرح سؤالًا منطقيًا: لماذا يرفض المشاهد أن يواجه في الشاشة ما يمارسه هو في حياته العادية؟

(*) صدر الكتاب في القاهرة، عن مؤسسة مجاز للترجمة والنشر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024