أسامة العيسة... المطران كبوجي كان فتحوياً وليس بعثياً!

المدن - ثقافة

الإثنين 2020/05/25
كنّا أطفالاً، وبدا الأمر رومانسيًا. دولة الكويت تصدر طابعًا يحمل صورة الشَّيْخ أبو طير، والمطران كبوجي. وتكتب فليتسيا لانغر: حيّ على الكفاح، في تحية للشيخ المقاوم. كانت لانغر تساهم في بناء الذاكرة الوطنية، وهذا ليس نادرًا في السياق الاستعماري، حتّى لو حدث تجاهله في الحالة الفلسطينية، مع تغير الروايات، لتخدم الأجندات الأيديولوجية، ومصالح الفاعلين في حركة التحرر الوطنية.

إلى أي مدى وعى الشَّيْخ والمطران، رمزيتهما؟
بقيت للشيخ، مكانته الرمزية لدي، ولم أكن أعلم مدى وعيه بها في السجن، لكن هذه الرمزية تزعزعت بالنسبة إلي، مع ترشحه لانتخابات المجلس التشريعي، وتقديم نفسه، في وسائل الإعلام الإسرائيلية، كحامل آراء براغماتية. يوجه رسائل طمأنة للإسرائيليين (ماذا عنا نحن؟)، وأنه وكتلته، سيكونون بديلاً مقبولاً عن حركة فتح، ولم يجد ضخه الإعلامي، إلَّا السخرية لدى الإسرائيليين، تمظهر في برامج التلفزة الإسرائيلية الساخرة، وفي إعلان تجاري يستغل لحيته الحمراء.

بدا لي أنَّ الشَّيْخ انتقل من الرمزية التي ربما لم يعِها، إلى ذاتية حزبية ضيقة، لكن المفاجأة، هي سيرته التي صدرت بين دفتي كتاب، فأنهت بقايا أيّة ذات رمزية، ألصقت به. يا للخسارة!

نجد أنفسنا كقراء، أمام مناضل، يعتقل، قبل أية عملية يحاول تنفيذها، رغم بعض الصور الرامبورية التي يقدمها لنفسها، بمسدسه، عبر الحواجز.

أيّة رمزية في مناضل يعترف على أُمّه؟ ويكاد يشيد بالتزام الشاباك بالصفقة، الاعتراف مقابل الإفراج عن الأُمّ. بالنسبة للشاباك فإن وأد الحس النضالي، بمثل هذا الاعتراف الفاضح على الأُمّ، يجرد النضال من أيّة رسالة يمكن أن تنقل للأجيال الجديدة؟

أيّة رمزية تبقى للشيخ، وهو يفتخر بتنمره على فايز الغوراني، أحد رموز الحركة الأسيرة، الذي أطلق نداء البدء بإضراب سجن عسقلان الأهم والأشهر في الخامس من تموز 1970؟
صرخ الغوراني من الطابق الغربي للسجن الرهيب: "يا معتقلي عسقلان: هذا اليوم الخامس من تموز موعد انتفاضتكم فتضامنوا، والله أكبر". لم يعد يرى من يجب أن يكون رمزًا جامعًا، الوطن إلَّا من ثقب حزبي صغير، يساهم في هدم الذاكرة الوطنية.  
أعتقد بأنَّ تحقيق المذكرات أو تحريرها، لم يضيفا لسيرة العزيز بلال البحثية المبهجة. بل هي تقهقر عما قدمه في مذكرات عدنان مسودي، التي رأيتُ في تحقيقه لها، نموذجًا لما يجب أن يكون عليه التحقيق.

ولا أعرف كيف يمكن لمركز بحثي، إذا كان بحثيًا حقًا، تبني إصدار مثل هذه المذكرات، التي فيها الكثير مما يسيء إلى الشَّيْخ. ولا تتضمن، كما يجب أن تكون المذكرات، أيّة مراجعات أو نقداً ذاتياً. 

مسافة متقهقرة، لم يقدرها الشَّيْخ، من حيّ على الفلاح، إلى حيّ على الكهوف الفئوية.
أظن أن المطران، بدا أكثر وعيًا لذاته الرمزية، بما لا يقاس، مقارنة مع الشَّيْخ، واتضح ذلك، من الروح التي بثها في الانتفاضتين الأولى والثانية. سنجد ذلك في الجماعات التي استوحت من رمزيته، نبراسًا، ومبادئ عمل، وكذلك خطاباته التي أُسمعت من روما للمحتشدين وللمتظاهرين. وبدا دائمًا صوتًا وحدويًا، مؤكدًا على الوحدة الوطنية الإسلامية-المسيحية. سمعته مرّة يتحدث في تجمهر لنشطاء الجهاد الإسلامي في ساحة المهد، وبدا الطرفان، المتحدث والمستمعين، في انسجام وحدوي، وحماسة لا تحد.

وإذا قبل الشَّيْخ بقتل ذاته الرمزية، بسيرةٍ ساعَده في نشرها آخرون برضاه، فإن المسلسل الذي تناول سيرة المطران، لم يكن سوى محاولة اغتيال معنوية للمطران، من قبل آخرين لم يستشيروه. 

أفصح المسلسل منذ البداية، عن هدفه الدعائي، بتقديم المطران كحارس خراب حلب، حسب الممثل السوري المعارض عبد الحكيم قطيفان.

من الواضح، أن صنّاع المسلسل، توجهوا إلى جمهور المقاومة أو الممانعة، وهو جمهور غوغائي غير متطلب، ركن إلى الخطاب الشعاراتي، وتقديس القائد، والهتاف في الساحات:
شبيحة للأبد
لعيونك يا أسد

مثل هذا الجمهور، لا يفكر، وسيكتفي، رغم فقر المسلسل فنيًا، بالتسحيج. ولن يتوقف كثيرًا أمام ليّ الوقائع، فالمطران هو عضو في حركة فتح، كما بدأ الشَّيْخ أبو طير عندما اكتسب صفته الرمزية، لكنّه، حسب علمنا، لم يتحوّل ليصبح عضوًا في حزب البعث. وطوال السنوات التي ظهر فيها من يستوحي سيرة المطران النضالية، وحتّى الآن، هم أعضاء في حركة فتح. ولعل أبرز تمظهر للمطران، نستشعره في الأب عبد الله يوليو، عضو فتح أو المقرب منها ومن السلطة.
قضى المسلسل على ذات المطران الرمزية، ووصلت الذرى البروباغاندية في الحلقة الأخيرة، حين تخلى صنّاع المسلسل، عن أيّ ظلال فنية، وجعلوا مطران المسلسل يتقوّل على الأخوان المسلمين، ومجزرة حماة، وغير ذلك. 

أمّا المطران الآخر تحت التراب، فمن الصعب سؤاله، لكن يمكن توقع بعض ردود أفعاله، على الخفة الفنية، التي تناولته. تخيلت وأنا أرى صورة كنيسة نياحة العذراء على جبل صهيون، قبل مشاهد في مطرانية الروم الأرثوذكس، عظام المطران تحت التراب تتململ، وذلك على تفاصيل عديدة، منها مثلاً:

-الحَطَّة الفلسطينية هي الحطة البيضاء، وليست المرقطة التي لم يكن ارتداؤها شائعًا في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي.
*النقود في السجون هي السجائر. لا يحمل الأسرى نقوداً، ليوزعوا كل هذه الرشى على السجانين.
*العملة المستخدمة هي الليرة وليست الشيقل.
*كان يمنع على الأسرى في ذلك الوقت تربية لحاهم. وكذلك أفراد الشرطة الإسرائيلية.
*إجبار المضربين على كسر إضرابهم، يحدث بطريقة مؤلمة قد تؤدي إلى الموت، وليس الطريقة الكاريراكارتية التي ظهرت في المسلسل. استشهد أسرى خلال إجبارهم على كسر الإضراب.
*مشاهد المحاكمة تظهر ديموقراطية دولة الاحتلال، والواقع أن ما يجري غير ذلك تمامًا، فكيف عن تظاهرة تأييد للمطران في المحكمة؟ أي عبث واستخفاف.
*تشويه المسلسل للقدس القديمة، مرئي. منزل أم عطا لا يمكن أن يكون في القدس المسورة، ولم تزد النباتات البلاستيكية، مشاهده إلَّا تشويها. طبعًا الخط الدرامي لهذه المرأة، ليس له علاقة بالواقع الفلسطيني. يكفي المسلسل، مثلب تشويه معمار القدس، ليُزدرى.
الشَّيْخ قتل ذاته الرمزية بنفسه، وربما بتسحيج جمهور آخر مختلف. أمّا المطران، فقتل رمزيته من استحوذ عليها، واغتالها، بكل هذه الخسة، والدناءة، وسط ضجيج القناة الممانعة ("الميادين" الإيرانية)، التي تقدم معلومات خاطئة عن القدس، قبيل حلقات المسلسل. كيف يمكن أن تُصدَّق وهي لا تعرف شيئًا عن القدس؟
تضطلع النخب عادة ببناء الذاكرات الوطنية، في مراحل التحرر الوطني، وبعدها، لكن في الحالة الفلسطينية، فإنَّ ما حدث، في مفاصل عديدة، هو هدم وتخريب الذاكرات، وتجليه في اختراعات الفصائل الفلسطينية الممانعة، والمساومة، والمقاومة، لتصنيفات عدائية حول الأصدقاء والأعداء.

(*) مدونة نشرها الروائي الفلسطيني أسامة العيسة في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024